في المشهد السياسي الموريتاني، تبرز قضية “مخبر الشرطة” كواحدة من أكثر الأزمات التي حملت أبعادًا تتجاوز الطابع الإداري أو الأمني لتتحول إلى معركة رمزية داخل النخبة السياسية. وتشير المعطيات إلى أن السياسي بيجل ولد حميد كان أحد المفاتيح الأساسية في إشعال فتيل هذه الأزمة، حين نشر مقالًا وصفه المراقبون بـ”المفخخ”، أعقب لقاءه بالدكتور محمد سالم ولد مرزوك.
المقال ـ على مستوى الشكل والمضمون ـ تضمّن إشادة واضحة بكفاءة الدكتور ولد مرزوك وأهليته لقيادة الدولة، وهي شهادة مستحقة في حقّ رجل راكم تجربة سياسية وإدارية كبيرة. غير أن القراءة السياسية للمقال حملت بعدًا آخر، إذ فُهم على أنه تمهيد غير مباشر لمعركة رئاسية مبكرة، أو على الأقل اختبار لردود الفعل داخل المحيط السياسي لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني.
في ساحة السياسة، لا تأتي الضربات دائمًا من الجبهة المقابلة؛ بل كثيرًا ما تُوجّه من مواقع تبدو ظاهريًا صديقة ومؤيدة. من هنا وُصِف المقال بأنه مناورة سياسية دقيقة: واجهتها الولاء والانتماء، وباطنها حسابات القوة وإعادة تموضع داخل مراكز القرار. هذا الالتباس في الرسائل فتح الباب أمام خصوم الدكتور ولد مرزوك الذين استغلوا النص لتأويله سياسيًا بما يخدم مساعيهم لإضعاف الرجل، وجرّه إلى دائرة الشك والتساؤل حول طموحاته المستقبلية.
ولأن المشهد السياسي الموريتاني شديد الحساسية، فقد دفعت الحملة وزير الخارجية إلى التأكيد العلني على ولائه المطلق لفخامة الرئيس، في خطوة كان يراد منها غلق الباب أمام أي تأويل مغلوط، رغم أن وفاء الوزير وتشبّثه بخيار الرئيس أمر لا جدال فيه. ومع تصاعد وتيرة التأويلات، اتسع نطاق التربص ليأخذ طابعًا قضائيًا في محاولة لتوريط آخر في سيناريو “فرضية الترشح المبكر”، وهي لعبة أثارت امتعاض الرئيس الغزواني، الذي أبدى انزعاجه من انشغال بعض رفاقه في برنامجه بهذا الملف السابق لأوانه.
لكنّ فصلًا جديدًا من هذه القصة كُسِر مؤخرًا بفضل تدخل الوزير الأول المختار ولد أجاي، الذي عرض على فخامة الرئيس ملابسات ما يجري، موضحًا أن بعض القوى استغل وسائل التواصل الاجتماعي ومنظمة قاحلة ترفع شعار محاربة الفساد ومواقع قريبة من دوائر القرار لتغذية الخلاف وإظهار الصراع بشكل مضلل وذلك عبر “ملف مخبر الشرطة”. وقد أدرك الرئيس بخبرته السياسية الواسعة أن هذه اللعبة لا تُنتج إلا خسائر سياسية وإرباكًا لمؤسسات الدولة، فأمر بوضع حدّ نهائي لهذا “العبث القضائي” الذي غذّته بعض المنابر المحلية.
لقد أثبتت هذه الأزمة أن وجود رجال دولة يتمتعون بالحكمة وبعد النظر، مثل الوزير الأول المختار ولد أجاي، ضروري لتجنيب البلاد منزلقات سياسية خطيرة. فلو غابت مثل هذه الشخصيات الرزينة عن المشهد، لكانت بعض التصرفات الطائشة دفعت البلد إلى مأزق يصعب الخروج منه.
هكذا يتضح أن المشهد الحالي ليس مجرد تنافس على المواقف أو المقالات، بل اختبار لمدى قدرة الدولة على ضبط التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية السياسية، وبين طموحات الأفراد ومصلحة النظام العام.
سلطان البان
الهضاب إنفو موقع إخباري مستقل