بقلم : الإعلامية والكاتبة سهام عبدالله. رواية : “سائح في موطنه

 

الفصل الثامن:

“المجاملات في المجتمع
الموريتاني… عادةٌ أم قناع؟”

كانت سهام تمضي في رحلتها
داخل وطنها كما يمضي السائح
بين تضاريس غريبة على عينيه،
لكنها محفورة في ذاكرته.

وكانت تظن أنها تعرف الناس
وتفاصيل عاداتهم، غير أنّ الأيام
كانت تكشف لها أن للمجاملات
وجهاً آخر، أكبر من أن يُسمّى لطفاً،
وأعمق من أن يكون مجرد عادة…
إنّه قناعٌ يفرضه المجتمع
ليخفي عيوبه، ويجمّل اضطرابه،
ويدفن الحقيقة في ركام الأعذار.

في صباح حارّ من أيام نواكشوط،
مرّت سهام قرب أحد الأسواق،
فوقعت عيناها على شاب يصرخ
بصوت يمزّق السكون.
كان
يشخط في وجه صاحب محل
صغير، يلقي عليه الكلمات
القبيحة بفظاظة كأنما اقتلعها
من صدره اقتلاعاً.

توقعت سهام أن ترى الناس
ينهرونه أو ينصحونه، لكن
ما أدهشها هو أنهم كانوا
يتبادلون النظرات المتعاطفة
نحوه، لا نحو صاحب المحل.
سمعت أحدهم يقول بثقة عجيبة:

“مسكين… هذا عنده
الحموضة ووجع المعدة.”

هكذا ببساطة، تحوّل الاعتداء
إلى عرضٍ صحي، وتحوّلت
القسوة إلى حالة طبية…
فالجميع هنا يخاف الحقيقة
فيداريها بالمجاملة،
حتى ولو كانت المجاملة
تبريراً للقبح.

ومضت سهام، وفي داخلها
سؤال يعصف:
“أيُّ مجتمعٍ هذا الذي يغفر
بالغفلة… ويبرّر بالعذر…
ولو كان العذر وهماً؟”

وبعد أيام، في هدوء المساء،
وبينما كانت تزور بيت الجيران
لأمر عابر، رأتها هناك…
امرأةٌ عجوز تجلس قرب عتبة الدار،
تنظر في الفراغ كمن يخاطب
حياةً لا يراها سواه.

كانت العجوز تضحك بلا سبب،
ثم تنقلب فجأة إلى حديث
مع نفسها، فتغوص في
كلمات مبعثرة يشبه بعضها
حكايات قديمة مكسورة.

أحياناً تشرد طويلاً كأنها
تلاحق طيفاً رحل، وأحياناً
تتصرف كمن فقد
صلتَه بهذا العالم.

توقعت سهام أن تسمع
الجيران يقولون:
“مسكينة… تحتاج
علاجاً أو رعاية.”
لكن الحقيقة كانت أغرب:
“هاذي صالحة… مبروكة…
بينها وبين الله سر.”

كانت الكلمات تُقال بإجلال،
وكأن شرودها كرامة، وضياعها
عبادة، وتصرفاتها المضطربة
علامة ولاية.

ورأت سهام الناس يتبرّكون
بلمس يدها، يتعاملون
معها كقدّيسة خفية،
لا كإنسانة تحتاج دواءً واحتواء.

فابتلعت سهام غصّة دهشة،
وقد أدركت أن المجتمع
لا يجامل هنا فقط…
بل يصنع قداسة من الوهم،
ويمنح الجنون تاجاً من
المبالغة، ويُغلّف
الاضطراب بورق التبرّك.

وبعد فترة من الزمن، وعند مقربة
من المستشفى، رأت سهام شاباً
آخر، في هيئة مزرية تهزّ القلب.

عيناه مطفأتان، ثيابه تحمل
آثار الطريق، وجسده يترنّح
كمن يبحث عن آخر
خيطٍ يبقيه واقفاً.

كان من الواضح أنه يحتاج
إلى طبيب… إلى يد تمتدّ نحوه…
إلى نظرة رحمة لا نظرة خوف.

لكن المارة كانوا يمرّون
بجانبه وكأنهم يملكون
تفسيراً جاهزاً لكل شيء:
“هذا مسحور… يحتاج لراقي.”

لم يكن أحدٌ يجرؤ على
قول الحقيقة:
أنه مريض.
بل كان الجميع يسارع إلى
تعليق ضعفه على شماعة
السحر، وكأن العقل آخر
ما يمكن استدعاؤه
في مواجهة الألم.

وقفت سهام عند نهاية
الطريق، تتأمل ثلاث صور
تنتمي للمجتمع نفسه:
شابٌ يصرخ… فيُعذَر.
امرأةٌ عجوز ضائعة… فتُقدَّس.
مريضٌ مستغيث… فيُسحَر.

ثم همست في داخلها
بكلمات كأنها خلاصة الرحلة:

“في مجتمعٍ تغلب فيه
المجاملات على الحقيقة،
يصبح الخطأ وجهاً للرحمة،
والاضطراب باباً للولاية،
والمرض دليلاً للسحر…
ويضيع الإنسان بين
ما هو وما يُقال عنه.”

ومع ذلك، كانت سهام
تؤمن أن كشف الحقيقة
يبدأ من عينٍ ترى…
وقلبٍ لا يخشى أن يقول:
إن أعظم المجاملات…
تلك التي تُبعدنا عن
إنسانيتنا نفسها.

 

شاهد أيضاً

الدرك يحبط تهريب كميات من البلاستيك والأدوية بسيلبابي

  – أحبطت فرقتا سيليبابي وغابو التابعتان لكتيبة الدرك الوطني بولاية كيدي ماغه، عملية تهريب …