كان هدفه الوحيد أن يتم تعيينه رئيس مصلحة في الوزارة، ولكن حتى في أكثر أحلامه تفاؤلا، لم يكن يجرؤ على أن يتخيل نفسه مديرا في إدارة فرعية !
سبحان الله.. يوم دخوله لأول مرة في قاعة مجلس الوزراء، لم يتمالك نفسه وابتسم من فرط السعادة..
ولكن.. لنعد قليلا إلى الوراء…
منذ ان تم تعيينه في وظيفة ثانوية جدا، في أحد المشاريع الصغيرة في نواذيبو، وهو يبذل جهودا مضنية كي يتم تحويله إلى نواكشوط. أقصى ما كان يتمناه أن يتم تعيينه رئيس مصلحة في وزارة وزارة الصيد.
وطبعا لم يكن يعلم أن الأحداث المتلاحقة في نواكشوط سيكون لها عميق الأثر على مسيرته المهنية. في تلك الأيام كان الوزير الأول محمد ولد بلال قد قدم استقالته، وبما أن رئيس الجمهورية لم يُكلفه بتشكيل حكومة جديدة، فقد فهم المسكين أن الرئيس قد قرر الاستغناء عن خدماته أو عن وجوده على وجه الأصح، لأن خدماته معدومة أصلا..
نصحه أحد المقربين من الرئيس بقضاء أيام بعيدا على العاصمة، كي لا تكثر الزيارات لمنزله ويكون في ذلك بعض الحرج للرئيس أو مظنة ضغط كي يتم تعيينه من جديد. وبما أن شخصيته الضعيفة تفرض عليه السمع والطاعة العمياء، دون أدنى نقاش لكل ما هو قادم من الرئاسة، فقد ذهب إلى قرية بومبري لقضاء عدة أيام بعيدا عن نواكشوط وصخبه، بينما كان هنالك نقاش يدور في الخفاء، بين رئيس الجمهورية والرجل القوي العائد بقوة، الوزير السابق المختار ولد اجاي.
من ناحية، رئيس الجمهورية ممتعض جدا من ضعف أداء الوزير الأول، وقد اتخذ قراره بتعيين وزير أول أكثر ديناميكية، يكون قادرا على الدفع بالمشاريع نحو الأمام.
ولكن ولد اجاي له رأي آخر..
أولا، يقول ولد اجاي، تعيين وزير أول جديد والانتخابات الرئاسية تفصلنا عنها سنة واحدة، هذا معناه أن الوزير الأول الجديد لن يبقى في منصبه أكثر من عام وهي فترة قصيرة جدا، بالكاد تسمح له بالتأقلم مع الملفات والمشاريع المتعثرة.
ثانيا وهو الأهم، دائما من وجهة نظر ولد اجاي، عندما تُعفي حرطاني من الوزارة الاولى فأنت أمام خيارين :
إما تقوم بتعيين شخص من شريحة مختلفة، وهو ما قد ينجم عنه اختلال في التوازن النسبي، الذي نجح النظام في خلقه بين الجهات والشرائح في ما يتعلق بتقسيم المناصب السامية.
وإما تقوم بتعيين حرطاني آخر، وهو ما سَيُشَكِّل رسالة مفادها أن هذا المنصب حكر على شريحة بعينها، ويترتب على ذلك احترام القاعدة الجديدة في جميع الحكومات القادمة.
في النهاية استطاع ولد اجاي إقناع الرئيس بأن يصبر عاما على ولد بلال، الأمر الذي سيفتح الباب أمام اختيار وزير أول جديد مع بداية المأمورية الثانية، يكون أكثر ديناميكية وقدرة على المواكبة وأكثر ملائمة مع المرحلة الجديدة، بغض النظر عن شريحته الاجتماعية.
ثم بدأ تشكيل الحكومة.. وكانت اولى تداعيات تعيين ولد اجاي مديرا للديوان هي خروج وزير الثقافة محمد ولد اسويدات من التشكيلة الجديدة، نظرا لانتماءهما لنفس الولاية. وهو ما حتَّم البحث عن وزير من لحراطين، لتعويض النقص الذي سببه خروج ولد اسويدات في نصيب هذه الشريحة.
كما أن خروج وزير التعليم براهيم فال ول محمد الامين من التشكيلة الجديدة فرض البحث عن شخص من نفس القبيلة، ولكن كي يتم الحفاظ على التوازن الآنف الذكر يجب أيضا أن يكون من شريحة لحراطين. وهو ما جعل الخيار ينحصر في شخص يتوفر فيه الشرطان : حرطاني ومن نفس قبيلة وزير التعليم المنصرِف.
تصورو معي فريقا من الموظفين السامين، في اجتماع يمتد حتى الساعة الثالثة صباحا وكل واحد يبحث في لائحة معارفه على الواتساب، ويرسل الرسالة تلو الأخرى : ما تعرف لي حرطاني من الفلانيين ؟
وأخيرا جاء الفرج.. في حدود الساعة الثالثة والنصف صباحا جاء الجواب المنتظَر : “نعرفو حت تبارك الله.. خالگ حرطاني منهم عندي عنو ظرك ف نواذيبو، حاني نمشيلك رقمو حالا..”
تتذكرون صاحبنا الذي كان يتمنى أن يحصل على منصب رئيس مصلحة في وزارة الصيد ؟ ها هو اليوم وزير في الحكومة الحالية، وغني عن القول أنه ومنذ تعيينه تتوالى الأغلاط والكوارث تباعا في قطاعه، ببساطة لأنه لم يكن في يوم من الأيام مستعدا لمنصب كهذا، لا خبرة ولا تجربة ولا تكوينا ولا حتى استعدادا ذهنيا.
وزير تم تعيينه صدفة، لأن سيرته الذاتية تحتوي على كلمتين كانتا هما الشرط الوحيد للتعيين في ذلك اليوم : حرطاني ومن قبيلة معينة.
أما الشهادات وتراكم الخبرات والسمعة الإدارية فلا أحد يسأل عنها. لأن معايير التعيين أصبحت حسب القبيلة والولاية والجهة حصريا. كل قبيلة لديها نصيب، وكل ولاية يجب تمثيلها، وهكذا دواليك..
حفظ الله بلادنا بعيدا عن المسلكيات المقيتة من قبلية وجهوية وعرقية وطائفية ومحسوبية.. يوما ما سيكون التعيين حصرا على حمَلة الشهادات واهل الاختصاص الذي راكمو تجربة معتبرة، كل في ميدان تخصصه، بغض النظر عن معايير العصر الجاهلي.
الصورة الاولى تُجَسِّد المحاصصة التي تم تكريسها منذ أول تعديل وزاري في المأمورية الحالية : خرج سيدي ولد سالم من التشكيلة الوزارية فدخل سيدي ول الزحاف. خرجت خديجة منت بوكه فدخل المختار ول داهي، وخرج نذيرو ول حامد فدخلت آمال منت الشيخ عبد الله..
الصورة الثانية : مدير ديوان رئيس الجمهورية، معالي الوزير الحالي والوزير الأول القادم المختار ول اجاي، وهو في وضعية الركوع، أمام الرئيس السابق محمد ول عبد العزيز…
شاهد أيضاً
مالي: تعيين وزير الداخلية السابق رئيسا للوزراء
عين رئيس السلطة الانتقالية بمالي، اليوم، وزير الداخلية السابق اللواء عبد الله مايغا رئيسا للوزراء …