لا بأس من قبل الحديث من جديد في هذا المقال الرابع عن انتخابات 13 مايو 2023، بأن نذكر بقصة تروى عن الإمام أبي حنيفة وتلميذه الذكي أبي يوسف رحمهما الله تعالى. تقول القصة بأن أبا يوسف وهو من أذكى تلاميذ الإمام أبي حنيفة أصيب بمرض شديد، فزاره أبو حنيفة رفقة بعض تلاميذه، وفي طريق العودة قال الإمام لتلاميذه بأن أبا يوسف سيكون له شأن عظيم إن قُدِّر له أن ينجو من المرض الخطير الذي ألم به.
شُفي أبو يوسف من مرضه، وأخبره بعض أصدقائه بما قاله عنه الإمام، فما كان منه إلا أن قرر أن يفتح حلقة تدريس خاصة به. فوجئ أبو حنيفة بالحلقة الجديدة المجاورة لحلقته، ولما سأل تلاميذه عنها وعن شيخها، أخبروه بأن أبا يوسف قد شفي من مرضه، وأنه قد قرر أن يفتتح حلقة تدريس خاصة به.
ولكي ينبه الإمام تلميذه الذكي على أنه قد استعجل الأمر، وأن وقت التدريس لم يحن بعد، أبرق إليه بسؤال لغز مع أحد التلاميذ جاء فيه أن رجلا أعطى قماشا لخياط ليخيط له ثوبا، ولكن الخياط أنكر وجود القماش، وبعد تفتيش وتهديد اعترف الخياط بوجود الثوب، وكان السؤال هو : هل يعطي صاحب القماش للخياط أجرة خياطة الثوب أم لا؟
ولقد أوصى الإمام تلميذه بأن يقول لأبي يوسف بأنه قد أخطأ مهما كانت إجابته، فإن قال بأن الخياط يستحق أجرا قال له التلميذ الرسول: ومن أين أبحت لخياط سارق الأجرة؟ وإن قال بأن الخياط لا يستحق أجرا، قال له التلميذ الرسول: ومن أعطاك الحق في أن تحرم خياطا من أجر معلوم كان قد حُدد له سلفا إن هو أكمل خياطة الثوب؟
نفذ التلميذ وصية الإمام، وعلم أبو يوسف بأن الإمام قد أراد أن ينبهه على أن وقت التدريس لم يحن بعد، فلم يكن منه إلا أن ترك حلقته، وذهب إلى الإمام وطلب منه ـ وهو جاثيا على ركبتيه ـ بأن يجيبه على السؤال اللغز.
فكان الجواب أن صاحب الثوب يعطي الأجرة للخياط إن كان الخياط قد فصَّل الثوب على مقاس صاحب الثوب، مما يعني بأنه لم يفكر في سرقة الثوب إلا بعد أن أكمل خياطته. أما إذا كان الثوب قد فُصَل على مقاس الخياط فلا أجرة للخياط الذي كان قد نوى سرقة الثوب من قبل البدء في خياطته.
لنعد الآن إلى نتائج انتخابات 13 مايو ومن قبل أن نفتي بتزويرها أو بعدم تزويرها، دعونا نستخدم نفس الأسلوب الذي استخدمه أبو حنيفة مع تلميذه أبي القاسم، فإن قال قائل منكم بأن انتخابات 13 مايو مزورة قلنا له : يا هذا كيف تقول بتزوير انتخابات لم تتسبب نتائجها في استقالة حكيم واحد من حكماء المعارضة؟ بل على العكس من ذلك فإن حكماء المعارضة الذين زكتهم أحزاب المعارضة قد زكوا هم بدورهم هذه الانتخابات، ودافعوا عن نتائجها أكثر من دفاع حكماء الأغلبية؟ وكيف تقول بتزوير هذه الانتخابات وأحزاب المعارضة لم تسحب مرشحيها في الشوط الثاني، وهي الأحزاب التي تقول بأن الشوط الأول من هذه الانتخابات قد شهد عمليات تزوير واسعة لم تشهدها أي انتخابات من قبل؟ فبأي منطق يشارك حزب معارض في انتخابات تأكد من تزويرها، فإذا كانت المشاركة في الشوط الأول لها ما يبررها، وذلك بحجة أن أحزاب المعارضة لم تتأكد من تزوير الانتخابات، فبماذا تبرر هذه الأحزاب مشاركتها في الشوط الثاني، وذلك بعد أن تأكدت خلال الشوط الأول أنها كانت هي الانتخابات الأكثر تزويرا في تاريخ الانتخابات في البلد؟
وفي المقابل إذا قال قائل منكم إن انتخابات 13 مايو لم تكن مزورة، قلنا له يا هذا كيف تقول بأنها ليست مزورة وقد شهد بتزويرها أكثر من شاهد من أهلها، فهذه هي أول انتخابات يصل فيها مستوى التزوير درجة تجعل الأحزاب الداعمة للرئيس تصدر بيانات تندد بتزويرها، وتطالب بإعادتها؟ ألا يكفي أن يشهد شاهد من أهلها بتزويرها للحكم على تزويرها؟
لم يتوقف الإمام أبو حنيفة في فتواه عند المرحلة النهائية أي مرحلة سرقة الثوب، بل عاد بفتواه إلى البدايات، أي إلى مرحلة تفصيل الثوب، وهذا هو بالضبط ما يجب علينا أن نفعله الآن للحكم على انتخابات 13 مايو، فالحكم على الانتخابات يجب أن لا يتوقف عند النتائج، بل يجب أن يمتد ليشمل كل المسار، مرحلة تشكيل لجنة الانتخابات، وما تبع ذلك من أمور كان لها أثرها القوي على النتائج.
إن شفافية الانتخابات تبدأ أولا من مرحلة “تفصيل” الثوب، وتفصيل الثوب يجب أن يشمل مستقبلا:
1 ـ تشكيل لجنة الانتخابات : لقد أثبتت تجاربنا السابقة أن لجان الانتخابات التي تعتمد على المحاصصة الحزبية هي لجان فاشلة، وقد آن الأوان للتفكير في لجان فنية تديرها كفاءات وخبرات غير حزبية، ولها سير وظيفية لا شبهة فيها؛
2 ـ تعودنا من المعارضة أن تكون حريصة على أن يوجد ممثلوها في مكاتب التصويت يوم الاقتراع، وهذا لا يكفي لضمان الشفافية. إن التزوير يبدأ من عمليات تسجيل الناخبين، ولذا فمن الضروري أن تكون المعارضة ممثلة في مكاتب تسجيل الناخبين لضمان أن لا يسجل إلا مالك بطاقة التعريف، والذي يجب أن يصوت في المكتب الذي سجل فيه. إن تزوير الانتخابات يبدأ بجمع بطاقات الناخبين والتسجيل بالنيابة عنهم، ولذا فمن الضروري جدا أن توقف مثل هذه العمليات مستقبلا، وذلك من خلال وجود ممثلين اثنيْن في كل مكتب تسجيل، واحد عن المعارضة وواحد عن الأغلبية، لا يقبلان بتسجيل أي ناخب ما لم يكن ذلك الناخب حاضرا ومصحوبا ببطاقة تعريفه؛
3 ـ لابد لشفافية الانتخابات من فرض البصمة أثناء التسجيل وأثناء التصويت، ولابد من اقتناء الأجهزة لذلك حتى وإن كانت مكلفة؛
4 ـ لابد أن تكون عملية اختيار رؤساء المكاتب عملية شفافة، وأن تكون عملية الاختيار تلك قائمة على أسس ومقاييس ومعايير محددة مسبقا.
خلاصة القول
إن تزوير الانتخابات لا يمكن أن نوقفه يوم الاقتراع ولا من بعد ظهور النتائج. إن التوقيت المناسب لمواجهة التزوير والحد منه يبدأ عند تشكيل لجنة الانتخابات، وانطلاق مسار تلك الانتخابات، فمن حاول أن يحد من التزوير من أول المسار سينجح بإذن الله، أما من يحاول أن يوقف التزوير عندما تبدأ عمليات التصويت والإعلان عن النتائج، فعليه أن يعلم بأن محاولته تلك قد تأخرت كثيرا.
ويبقى الحل المتاح الآن، وكما قلتُ في مقالي السابق، هو الاستمرار في الاجتماعات الثلاثية بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية ولجنة الانتخابات، وذلك من أجل الخروج بحل توافقي يرضي الجميع.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
Elvadel@gmail.com