
لم يعد هذا السؤال عبارة بروتوكولية تُختَم بها البيانات، ولا جملة رمادية تُلقى في الفراغ، بل صار مرآة كاشفة لاختلال عميق في علاقتنا بالكلام، وبالنقد، وبالدولة نفسها. فمن يعنيه الأمر حقًا حين تُتخذ القرارات، وحين تُرتكب الأخطاء، وحين يُفتح المجال العام على مصراعيه حتى تختلط المعرفة بالادعاء، والحق بالصوت الأعلى؟
في الأصل، لم يكن الرأي شأنًا سائبا، ولا النقد فعلًا اعتباطيًا، بل كانا مرتبطين بالموقع والمسؤولية والمعرفة. فالكلام في الشأن العام لم يكن متاحًا بوصفه حقًا مجردًا، بل بوصفه تكليفًا أخلاقيًا وعقليًا. من يتكلم كان يُسأل: من أنت؟ ومن أي موقع تتكلم؟ وبأي أدوات تفهم؟ أما اليوم، فقد انقلب السؤال، وصار مجرد القدرة على الكلام كافيًا لمنح الشرعية، حتى لو خلا القول من أي برهان، أو افتقد أدنى شروط الفهم.
لقد ذابت الحدود بين الصحفي والناشط، بين الخبير والهواة، بين من يمارس الرقابة بوصفها وظيفة، ومن يصرخ بوصفه تعويضًا عن العجز. لم يعد الفرق واضحًا بين من يبحث عن الحقيقة، ومن يبحث عن التفاعل، وبين من يحاسب الدولة، ومن يتغذى على فشلها ليصنع لنفسه حضورًا عابرًا. وفي هذا الذوبان، لم تُكسب الحرية معناها، بل فقدته، لأن الحرية حين تنفصل عن المسؤولية تتحول إلى ضجيج، وحين تنفصل عن المعرفة تصير خطرًا على نفسها.
الصحافة التي وُجدت لتكون عين المجتمع وعقله النقدي، باتت في كثير من الأحيان أسيرة السبق لا الصدق، وأسيرة المزاج العام لا الحقيقة المركبة. والقانون، الذي وُجد ليكون ميزانًا باردًا في وجه الانفعال، تراجع أمام محاكم الرأي، حيث الإدانة أسرع من الفهم، والعقوبة تسبق التحقيق. أما النخبة، التي كان يُفترض أن تشرح التعقيد وتمنح المعنى، فقد انسحبت أو عُزلت، تاركة الساحة لمن يتقن التبسيط المخل، والخطاب السهل، والإجابات الجاهزة.
وفي قلب هذا المشهد، يظهر المواطن مرتبكًا: يملك حق التعبير، لكنه يُدفع دفعًا ليكون قاضيًا، وخبيرًا، ومحللًا استراتيجيًا في آن واحد. لا لأن الدولة منحته أدوات الفهم، بل لأن الفضاء العام صار بلا ضوابط، وبلا وسطاء معرفيين. وهنا يتحول الرأي العام من قوة رقابية واعية إلى كتلة انفعالية متقلبة، تُرفع باسمها الشعارات، وتُبرَّر باسمها القرارات، دون أن تُسأل: هل تفهم ما يجري؟ وهل تُدرك كلفة ما تطالب به؟
الأخطر من ذلك أن الدولة، حين تغيب عن تنظيم المجال العام، لا تختفي فقط من المشهد، بل تترك فراغًا تملؤه الأصوات الأعلى لا الأعمق، والأجرأ لا الأصدق. فالدولة ليست مجرد حكومة تُنتقد، بل إطار يضمن أن يكون النقد نفسه ذا معنى، وأن تكون المحاسبة مسارًا لا مهرجانًا، وأن يكون الاختلاف مصدر إثراء لا تفكيك.
إن السؤال الحقيقي ليس من يحق له أن ينتقد، بل من يملك أهلية النقد، ومن يتحمل تبعاته، ومن يقبل بأن يُحاسَب على ما يقول كما يُحاسِب غيره. فالكلام في الشأن العام ليس حقًا بلا ثمن، بل مسؤولية لها كلفة أخلاقية ومعرفية. وحين تُرفع هذه الكلفة، يصبح الجميع متكلمين، ولا يعود أحد مسؤولًا.
برأي أن أخطر ما نعيشه اليوم ليس فساد القرار وحده، بل فساد المعنى. لقد أصبحنا نعيش وهم المشاركة بدل المشاركة نفسها، ووهم المحاسبة بدل العدالة، ووهم الحرية بدل الوعي. ومن يعنيه الأمر حقًا ليس من يصرخ أكثر، ولا من يتصدر المشهد، بل من يخاف على المعنى أن يضيع، وعلى الدولة أن تتحول إلى ساحة، وعلى الرأي أن يفقد عقله. فإذا لم نستعد قيمة الموقع، وحدود الدور، وأخلاق الكلام، فلن يبقى من «من يعنيه الأمر» سوى عبارة جميلة… تُقال حين لا يعني الأمر أحدًا.
الهضاب إنفو موقع إخباري مستقل