الصراع الخفي،،،،،، حين يخرج إلى العلن قراءة في ملامح التحولات داخل النظام السياسي الموريتاني/بقلم محمد سيد أحمد بوب

على مدى السنوات الماضية ظلّ الحديث عن صراع أجنحة داخل النظام السياسي في موريتانيا مجرد فرضية يتداولها مراقبون ومحللون، دون وجود دلائل واضحة تؤكدها. ورغم نفي الكثيرين آنذاك لأي خلافات أو تنافس داخلي، فإن المؤشرات التي تراكمت خلال الفترة الأخيرة — ومعطيات خرجت من داخل بنية السلطة نفسها — جعلت فرضية الصراع تنتقل من دائرة الشك إلى خانة الوقائع الظاهرة للعيان.

وقد كتبتُ قبل عام أو أكثر عن هذه الفكرة، ووصفتُ — رغم الإنكار العام حينها — أنّ أي نظام سياسي يقوم عادة على ثلاثة أجنحة رئيسية:

1. جناح البطانة والمحيط الضيق للرئيس وهو الأكثر نفوذًا وقدرة على التأثير واتخاذ القرار.

2. جناح الحزب الحاكم ممثلاً في مكتبه التنفيذي ومجلسه الوطني.

3. جناح الظل الذي يتكوّن من شخصيات نافذة داخل الدولة العميقة ذات ارتباطات سياسية وأمنية وقدرات تأثير غير معلنة.

هذه الأجنحة تتنافس بطبيعتها على القرب من مركز القرار وعلى تثبيت مواقع النفوذ، مما يجعل وقوع التصادم أمرًا شبه حتمي في لحظات التحول السياسي أو اقتراب المواعيد الانتخابية أو تغيّر أولويات الحكم.

من الإنكار إلى الإقرار: لحظة تمبدغة

ظلّ هذا الصراع مطمورًا تحت السطح إلى أن خرج الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في خطاب رسمي بمدينة تمبدغة ليقرّ — بشكل دبلوماسي — بوجود تحركات سياسية “غير منسَّقة” داخل محيط السلطة، وأن هناك من يتصرف وكأنه مرشح الدولة القادم. ودعا الرئيس حينها إلى وضع حدّ لهذه التقديرات والممارسات، والتأكيد على أن تنفيذ البرنامج الانتخابي هو الأولوية الوحيدة للحكومة وكل أطراف النظام.

كان ذلك أول اعتراف علنيّ بأن التنافس الداخلي موجود، وأن الحديث عنه لم يكن “مجرد تحليل فاقد الدليل”، بل توصيفًا مبكرًا لمسار بدأ يتضح لاحقًا.

مؤشرات الصراع تطفو: استهداف، ملفات، وتحركات غير اعتيادية

خلال الأشهر الأخيرة ظهرت شواهد عديدة تؤكد أن الصراع خرج من إطار التقديرات إلى مستوى الفعل السياسي والإداري، من بينها:

استهداف شخصيات ذات وزن داخل الدولة العميقة، بينها جنرالات متقاعدون ووزراء في الحكومة الحالية.

تباين واضح في الطرح داخل دوائر القرار، وظهور خطاب غير منسجم بين بعض الفاعلين البارزين.

تفعيل ملفات حساسة مثل:

ملف صفقة مختبر الشرطة

ملف الإرث الإنساني المرتبط بأحداث 1989

معلومات عن وساطات وعمليات احتواء للمدير العام للأمن الوطني السابق مسقارو ولد اغويزي، على خلفية نشاطات سياسية وإعلامية غير مريحة لبعض الأطراف.

تصاعد الحديث عن طموحات سياسية مبكرة كان النظام يفضّل بقاؤها في الظلّ.

هذه المعطيات مجتمعة تشير بوضوح إلى أن ما كان يُعتبر “صراع أجنحة محتملًا” أصبح اليوم واقعًا له انعكاسات مباشرة على سير العمل الحكومي وعلى ديناميكية السلطة داخليًا.

حظوظ المرشحين المحتملين داخل النظام… ميزان القوة وفرص التزكية

وفي ظل اقتراب الاستحقاقات المفصلية لسنة 2029، يبرز سؤال جوهري: من هو الشخص القادر على نيل ثقة الرئيس والدولة العميقة كمرشح توافقي؟. ويمكن تلخيص حظوظ أبرز الأسماء المتداولة كالآتي:

1. وزير الداخلية الحالي: أحمد محمد الأمين

يُعدّ الأقرب من دوائر القرار والأكثر حضورًا في الملفات السياسية الحساسة، وما يزال يمثّل خيارًا قويًا بحكم ثقته لدى الرئيس، غير أن صعوده السريع يثير تحفظ بعض الأجنحة التي لا ترغب في تمركز نفوذ جديد قد يخلّ بتوازناتها التقليدية.

2. وزير الدفاع : حنن ولد سيدي

يمتلك ثقلًا داخل المؤسسة العسكرية، ويظهر كخيار توافقي يحافظ على الاستقرار الأمني. لكنه أقل تجربة في اللعبة السياسية المفتوحة، ما يجعل حظوظه تعتمد على قدرة مراكز القوى على تبنيه كـ “خيار هادئ بلا مخاطرة”.

3. رئيس البرلمان الجنرال المتقاعد : محمد مكت

يمثل امتدادًا كلاسيكيًا للدولة العميقة، ويحتفظ بثقل معتبر داخل أوساط الجيش سابقًا والدوائر الاجتماعية. لكن تقدمه في العمر وتحفظ بعض الأطراف من العودة إلى خيار “العسكري القديم” يحدّ من فرصه، إلا أنه يبقى مرشح الضرورة إذا احتاج النظام شخصية صلبة ذات خبرة طويلة.

4. المدير العام للأمن الوطني السابق : الجنيرال مسقارو ولد اغويزي

يملك شبكة تأثير واسعة وقدرة على الحراك السياسي، غير أنّ تفعيل بعض الملفات ضده ووجود حساسية من طموحاته يجعل حظوظه مقيدة. فهو مرشح محتمل، لكنه في الوقت ذاته هدف مباشر لبعض الأجنحة المنافسة.

تحولات 2029… الأسئلة الصعبة

لم يعد عام 2029 محطة انتخابية عادية، بل تحوّل إلى مفصل سياسي سيحدد شكل الحكم في موريتانيا. وتتداول الأوساط ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

1. ترشيح وزير الداخلية باعتباره الأكثر جاهزية في السياق الحالي.

2. تعديلات دستورية تسمح بفتح المأموريات أو تمديدها.

3. إعادة هندسة نظام الحكم نحو رئاسي خالص أو برلماني خالص بدل النظام شبه الرئاسي.

هذه السيناريوهات ترتبط مباشرة بصراع الأجنحة ومحاولات إعادة توزيع النفوذ داخل النظام.

الأجنحة بين الإصلاح والمحافظة… والبلاد بين الاستقرار واللايقين

الصراع لا يتمحور فقط بين إصلاحيين ومحافظين، بل يتوزع بين:

أجنحة تريد تسريع الإصلاح الاقتصادي والسياسي،

وأخرى تريد تثبيت الوضع القائم،

وثالثة تعيد التموضع استعدادًا لمرحلة ما بعد غزواني.

هذا التباين يجعل المشهد هشًا وقابلاً للتصعيد ما لم يتم حسم التنافس مبكرًا.

هل يتجه النظام إلى “إعادة ضبط”؟

مع تصاعد التوتر، يتردد الحديث عن احتمالات تشمل:

إعادة ترتيب هرم السلطة،

أو حلّ البرلمان والذهاب لانتخابات سابقة لأوانها،

أو القيام بتغييرات واسعة داخل الحكومة والحزب لإعادة الانسجام.

وهي خيارات — رغم حساسيتها — قد تصبح مطروحة بقوة إذا استمر ارتفاع منسوب الصراع.

يمكننا القول : إن بلدنا على عتبة تحوّل ولم يكن خروج ملامح الصراع إلى العلن، وتداول أسماء ثقيلة من داخل النظام في ملفات حساسة، وتحرك أجنحة مختلفة لإعادة صياغة مواقعها المستقبلية، كلها عوامل تجعل المشهد السياسي لما بعد 2029 غير قابل للتوقع.

فموريتانيا اليوم أمام مفترق طرق:

إما حوار داخلي يرسّخ الاستقرار ويعيد ضبط إيقاع النظام،

وإما تصاعد الصراع إلى مستويات تؤثر على شكل الحكم، وتوازن السلطة، ومسار التنمية.

ويبقى الدور الحاسم للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في قدرته على ضبط هذه التوازنات ومنع انزلاق البلاد نحو حالة عدم يقين سياسي قد تكون لها تبعات عميقة على الداخل وعلى موقع موريتانيا في الإقليم.

شاهد أيضاً

وزارة التربية… حين تتحوّل الملفات الإدارية إلى أدوات صراع شخصي موقع الهضاب بقلم ماء العينين أكليب

تعيش وزارة التهذيب الوطني في موريتانيا، منذ أشهر، على وقع نقاش واسع حول استخدام الملفات …