لماذا ينفر الناس من بعض المتحدثين رغم قدرتهم على الكلام وامتلاكهم أدوات البلاغة…؟
وما الذي يجعل شخصا ثقيل الظل لا يُحتمل، حتى وإن لم يخطئ في لسانه أو في منطقه…؟
البلاغة ليست هي كل شيء…!!.
البلاغة مهارة لكنها لا تكفي إن لم ترافقها كيمياء روحية: شعور المتلقي بأن المتحدث يشبهه أو يحتويه. ليس كل كلام يقال في كل وقت، تحتاج البلاغة إلى توقيت سليم، وبعضهم يتكلم كأنه يخطب في جماعة بلا عيون وبلا آذان، فالمتكلم البليغ قد يُحسن القول، لكنه يسيء الإصغاءَ إلى صمت الحضور.
بعض ثقلاء الظل لا يدركون أن الناس لا يريدون من يحرجهم بفصاحته أو يتعامل مع المستمعين كتلاميذ سفهاء، بعضهم يتكلم مع الناس كأنه يقرأ في محراب منفصل عنهم وتلك كارثة، وبعضهم لا يلاحظ التبرم فيزيد، ولا يقرأ الوجوه فيتمادى، ثم يتصور أن الإنصات واجب ديني أو أخلاقي له، ولا يدرك بعضهم أن الحديث الناجح له نفَسٌ وإيقاع وشهيق وزفير، الحديث الناجح لا يُرهق السمع ولا يستجدي الإعجاب، بل يترك مساحات صمت ليشارك السامع في البناء..
قد يتكلم أحدهم بحكمة سقراط لكن الناس لا يشعرون أنه يعي ما يقول، إذ بعضهم يؤدي دور الحكيم ولا يكونه، ثم إن ثقل الظل ليس عيبا لغويا بل خلل في الذوق وذكاء اللحظة، وقد قيل “إن من البيان ما هو فتنة”، والفتنة هنا ليست دائما بالحسن، بل قد تكون بالإملال والمغالاة والتصنع.
ثقل الظل، كما أراه، ليس في الألفاظ، بل في الظلال النفسية التي ترافقها، وهو افتقار إلى ما يسمى بالذكاء الوجداني أو التقمص العاطفي، وهذه صفات تتجذر أحيانا من الطفولة المبكرة، ولبعضها أساس وراثي أو عصبوني يُصنف ضمن سمات الاضطرابات النرجسية أو التخشب العاطفي أو حتي بعض سمات طيف التوحد الخفيف، حيث يصعب على الفرد قراءة مزاج الآخر.
وهناك آخرون يحملون ما يشبه الترميز الجيني للهيمنة، ولو سمينا الأمر بأدبٍ لقلنا إن هناك متلازمة غير مصنفة بعدُ، قد تكون خليطا من فرط الذاتية أو نقص الانعكاس العاطفي أو ربما تركيبة عصبية تجعل نغمة الصوت او تعبير الوجه أو لغة الجسد ببساطة…مُنَفِّرةً…!!
هل هذا جيني؟ ربما جزئيا، لكنه قطعا بنيوي في عمق الشخصية ويصعب تعليمه أو تهذيبه بسهولة.
وفي النهاية، أنصحكم وأنصح نفسي بالابتعاد عنه قدر الإمكان لما يورث قربُه من كدر في صفاء الروح وقلق في زكاء النفس وغبش في صفو الأمزجة…
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.