الطريق الى الهاوية (زكرياء نمر)

في كل مرة يعاد فيها إنتاج خطاب عنصري أو قبلي، سواء عبر نكتة رائجة، أو تمييز في التوظيف، أو حتى في سلوك يومي عابر، فإننا لا نقف فقط أمام لحظة من الجهل، بل أمام إعلان رمزي متجدد لفشلنا كمجتمع يطمح أن يكون حياً، حراً، منتجاً. فالعنصرية والقبلية لم تعد مجرد موروث تقليدي من زمن غابر، بل أضحت سلوكاً يتجذر في أعماق النظم الاجتماعية والسياسية، ويغذي عجزنا البنيوي عن تأسيس فكرة الوطن الواحد، الذي يتجاوز الانتماءات الضيقة نحو أفق أرحب من المواطنة والعدالة والمساواة.

العنصرية في مجتمعاتنا ليست حادثة طارئة، بل هي نتاج تراكمات ممتدة، حفرتها أنظمة الحكم القديمة والجديدة على حد سواء، وساهم في ترسيخها الاستعمار تارة، والدولة الوطنية التي فشلت في تقديم مشروع جامع تارة أخرى. لقد ظل اللون، واللغة، واللهجة، والاسم، أدوات لتحديد القيمة الإنسانية في بيئة يفترض أن تحتكم للعلم والمعرفة والأخلاق. أما القبلية، فقد انتقلت من كونها رابطة اجتماعية طبيعية، إلى وسيلة لابتزاز الدولة، وممر لاحتكار الفرص، ومنصة تُصنف بها الناس درجات في “الشرعية الاجتماعية”.

إن الإصرار على هذه الأدوات التقليدية في عصر تتقدم فيه البشرية نحو مفاهيم أكثر عدلاً، لا يعبر فقط عن تأخر أخلاقي وثقافي، بل يدل أيضاً على غياب المشروع الوطني الحقيقي. فكيف لمجتمع يعجز عن تجاوز لون الجلد، أو نسب القبيلة، أن يبني دولة حديثة؟ وكيف لعقل مأسور في هواجس النقاء العرقي أو “الفخر القبلي” أن يُنتج معرفة، أو يشارك في الحضارة، أو ينهض بتنمية شاملة؟

المجتمعات التي تقوم على التمييز تنهار من داخلها. فحين تُبنى الثقة على أساس القبيلة، وتُوزع الفرص وفقاً للانتماء العرقي، وتُمنح المراكز لا للأكفأ بل “لمن هو منا”، فإن معيار الكفاءة يُنسف من جذوره. يولد إحساس بالتهميش، وتُكسر روح المواطن، ويشيع شعور عميق بالغربة داخل الوطن نفسه. هكذا تتحول المؤسسات إلى أوكار للترضية لا للبناء، وتُستنزف الطاقات في الصراع بدلاً من التقدم.

إن خطورة العنصرية والقبلية لا تكمن فقط في آثارها المباشرة، بل في مناخ العنف الرمزي الذي تخلقه. كل كلمة تنطوي على سخرية من لهجة الآخر، أو تقليل من شأن لون بشرته، هي قنبلة صغيرة تُلقى في الفضاء العام. وقد لا تنفجر مباشرة، لكنها تُراكم شعوراً بالمهانة، وتغذي نزعة الانتقام، وتُضعف نسيج التعايش. ولعل أخطر ما في الأمر أن هذا العنف يُمارس أحياناً بلا وعي، بل تحت غطاء “الطرافة” أو “العادة”، وكأن الإهانة إرث يُضحك الناس لا يجرحهم.

الذي يصر على العنصرية لا يفعل ذلك دوماً من باب الكراهية، بل كثيراً ما يكون مدفوعاً بوهم القوة، ورغبة دفينة في التميز عن الآخرين. يشعر البعض أنه حين يحتقر الآخر، فإنه يعلو على نفسه، أو يعوض نقصاً ما في داخله. كما أن الأنظمة السياسية المستبدة تجد في هذه الانقسامات وسيلة فعالة لتفكيك المجتمع، ومنع وحدته، وإشغال الناس ببعضهم بدلاً من مساءلة السلطة نفسها. إنها لعبة خبيثة، تغذيها النخب التي تعيش على صراعات الهويات، وتقتات من فتات الخلافات.

لا يمكن لمجتمع مهووس بهويته الضيقة أن ينهض، ولا لدولة تتجاهل التنوع أن تستقر. إن المطلوب اليوم ليس محو الفروقات، بل الاعتراف بها واحترامها داخل إطار وطني جامع، يجعل من التعدد ثروة لا لعنة. نحن بحاجة إلى إصلاح جذري في بنية التعليم، يُرسخ قيم المساواة والعدالة والانتماء للوطن، لا للعرق أو القبيلة. نحن بحاجة إلى قوانين لا تتسامح مع خطاب الكراهية، ومؤسسات تُحاسب على كل تمييز، مهما بدا بسيطاً. نحتاج إلى إعلام مسؤول، يُحتفي بالنماذج العابرة للهويات، ويُعيد صياغة مفهوم “الرمز” بعيداً عن الاعتبارات الإثنية والطائفية.

إن أكبر كذبة نرويها لأنفسنا هي أن العنصرية والقبلية مجرد مظاهر طبيعية، أو أنها “حكمة أجداد”، أو “سياق ثقافي”. لا. هي أمراض. وأي مجتمع يصر على أن يعيش بها، هو مجتمع يختار الفشل بوعي أو بلا وعي. لا يمكن أن نطالب بدولة حديثة ونعيش بمنطق القبيلة. ولا يمكن أن نحلم بديمقراطية حقيقية ونحن لا نزال نقيس الناس بأسمائهم ولهجاتهم وأنسابهم.

الوطن الحقيقي لا يُبنى على الدم، بل على القيم. والانتماء الحق ليس لمن يشاركك اللون، بل لمن يشاركك الإيمان بالحرية، والعدل، والكرامة. كل إصرار على العنصرية والقبلية ليس إلا إعلاناً صارخاً عن العجز، والفقر الأخلاقي، والفشل في الارتقاء إلى مرتبة الإنسان.

شاهد أيضاً

المثقف الغلافي: عندما تُقرأ الكتب لألوانها”!

” في زاوية من المقهى، كان هناك “مثقف” يتحدث بشغف عن الدولة والسياسة والمجتمع، مُلوحًا …