موريتانيا دولة مختلفة( اسماعيل احمدوا)

بعيدا عن التشخيصات النمطية التي لا تتجاوز – في أغلبها – الهجوم السياسي أو الدفاع العابر، تتطلب حالة موريتانيا الراهنة قراءة أكثر تأنيا وبنيوية. فما يمر به البلد اليوم تجاوز سوء الحكامة والفساد إلى ما هو أعمق: أزمة اجتماعية، وانهيار للعقد الاجتماعي. لقد تفككت الروابط بين الفئات العمرية، وانبتت العلاقة بين السلطة والشرعية.

لم يزل النظام الحالي، منذ استلامه سدة الحكم، يسعى إلى تحويل الدولة إلى فضاء مجزإ، تُركَّز فيه السلطة، وتُفرغ المشاركة من مضمونها، وتُمارَس السيادة في إطار من البراغماتية المفرطة التي تُضعف موقع القرار الوطني.

الحوار الوطني: رمزية ضعيفة ومأزق بنيوي
بعيدا عن كونه فعلا تأسيسيا، انطلق الحوار الذي تم تدشينه في بدايات المأمورية الثانية للرئيس وسط أجواء باهتة، أشبه بوجبة إفطار سياسي غلبت فيها الرمزية على المضمون.

يطرح هذا الانطلاق المتواضع تساؤلا: هل هو حوار سياسي ظرفي أم حوار وطني استراتيجي؟

إن غياب الوضوح المفاهيمي — إذ لم يحدد المنظمون أي إطار نظري — يعكس رغبة ضمنية في إبقاء الغموض. وقد تم تهميش القوى الحية في البلد، خصوصا الشباب الذين يمثلون أكثر من 70% من السكان، والنقابات، والمثقفين، وفاعلي المجتمع المدني.

أما الأحزاب الحاضرة، فإن المعارضة منها تمثّل، في جزء كبير منها، تشكيلات فقدت حضورها المجتمعي ولم تعد تعبّر عن المزاج الشعبي العام، بعدما تحوّلت إلى كيانات رمزية أكثر منها قوى فاعلة. أما الأحزاب الموالية، فتؤدي دورًا يطغى عليه الطابع الإجرائي، منزوع من أي إرادة سياسية مستقلة. في هذا السياق، تبدو الساحة الحزبية الحاضرة خالية من البرامج الفعلية ومن الشرعية التمثيلية التي يمكن أن تشكّل رافعة لأي مشروع حوار وطني.

أما الغائب الأكبر، فهو الرجل الثاني في الانتخابات الرئاسية، بيرام ولد الداه ولد اعبيد، الذي يقاطع الحوار بدعوى غياب الاعتراف السياسي. وهو غياب يضعف – بلا شك – مستوى التمثيل في هذا الحوار المزعوم.

وعليه، يبدو أن الحوار، بدلًا من أن يكون رافعة للانفتاح، يعمل كأداة للتنظيم الداخلي.

الهجرة مقابل المال: فخ الاعتماد بدل التنمية
في مارس 2024، وقّعت موريتانيا اتفاقًا مع الاتحاد الأوروبي يستهدف الحد من الهجرة غير النظامية عبر أراضيها، مقابل دعم مالي سنوي يقارب 200 مليون يورو. الاتفاق الذي وُصف بشراكة استراتيجية، يعكس في جوهره نموذجًا مكرّرًا لعلاقات مشروطة بين الشمال والجنوب، حيث تتحول الهجرة إلى ورقة تفاوض، وتُستبدل السياسات التنموية المستقلة بصفقات ظرفية قائمة على منطق “الاستضافة مقابل المال”.

من منظور اقتصاد التنمية، مثل هذه الاتفاقيات تحمل في طياتها مخاطر ما يسميه بول كوليير “فخ الاعتماد”: إذ سرعان ما تتحول المساعدات إلى مورد سهل، يُستخدم لتسكين الأزمات الآنية، بدل أن يُستثمر في خلق قواعد إنتاجية، أو إصلاح مؤسسي فعلي. عندما تُوجه الموارد نحو البيروقراطية بدل رأس المال البشري، وتُدار في غياب آليات رقابة مستقلة، فإنها تُعيد إنتاج نفس البنى التي تعيق التنمية أصلاً.
مع تدفق أعداد متزايدة من اللاجئين والمهاجرين، في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر متعدد الأبعاد، ويعاني من هشاشة في البنى الصحية والتعليمية، فإن أي ضغط إضافي قد يُفاقم من التوترات الاجتماعية والاقتصادية، بدل أن يعزز الاستقرار المنشود. فالمال وحده لا يخلق التنمية، بل الإدارة الرشيدة للموارد، وربطها بأجندة وطنية تعطي الأولوية للتشغيل، التعليم، وتمكين الفئات الهشة.

ما لم تترافق هذه الاتفاقيات مع استراتيجيات داخلية واضحة، فإن موريتانيا تُخاطر بالتحول إلى منطقة عازلة ممولة خارجيًا، تحاصر فيها الأزمة بدل أن تُحل.

الرهان الحقيقي ليس في توقيع الاتفاق، بل في قدرة الدولة على تحويل التمويل الخارجي إلى رافعة داخلية، تكسر حلقة الاعتماد وتستعيد المبادرة التنموية من الداخل.

الفساد والقبلية: تحالف ضد الدولة
الفساد في موريتانيا ليس انحرافًا عن النظام، بل هو تجلٍّ طبيعي له؛ فلا يمكن اعتباره حادثًا عرضيًا في مسار الدولة، وإنما هو النتيجة المنطقية لبنية اجتماعية لم تغادر بعد عالم ما قبل الدولة. فنحن أمام تركيبة هجينة، تتجاور النسق القبلي – العائلي، مع شكل الدولة الحديثة المستوردة. غير أن هذا التجاور لم يؤدِ إلى اندماج وظيفي، بل إلى تشوّه بنيوي يُفرز إدارة موازية، قائمة على الولاءات العشائرية، والمحسوبيات، والتوازنات السلالية.

لكن ما يفاقم المأزق اليوم ليس فقط التاريخ أو البنية الاجتماعية، بل خيار النظام الحاكم الجديد، الذي لم يمضِ على وصوله أكثر من ست سنوات. بدلًا من أن يسلك طريق الإصلاح، أعاد هذا النظام هيكلة الدولة على أسس بدوية، حيث الحُكم يُدار بمنطق الزعامة التقليدية لا الإدارة العصرية، والسلطة تُبنى على العلاقات الشخصية لا على المؤسسات. لقد تم تجريف ما تبقى من مظاهر الدولة الحديثة لصالح حكامة قائمة على الانتماء، والتبعية، والولاء.

1. القبلية كأساس للسياسة
خلافًا لكثير من دول ما بعد الاستعمار التي حاولت إعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس مدنية، اختارت النخب الموريتانية ترسيخ القبلية كمبدأ ناظم للسلطة. لم تُلغَ القبيلة، بل أُعيد تكييفها، فصارت الأداة الأهم لتوزيع المناصب والصفقات.

تحوّلت الوزارات إلى حصص موزعة بين قبائل متنافسة، لا على أساس برامج أو كفاءة، بل على قاعدة توازنات قبلية وجهوية دقيقة. والمرفق العمومي بات يُدار كملكية خاصة، حيث الولاء الشخصي يتفوق على المصلحة العامة، والخدمات تُمنح بحسب القرب لا الاستحقاق.

هذا النمط لا ينتج الظلم فقط، بل يعمّق رداءة الأداء. فالكفاءة المهنية أصبحت تهديدًا، والاستحقاق خطرًا على توازن المصالح. وأي مشروع إصلاحي يصطدم بجدار صلب من الامتيازات العشائرية التي حوّلت الدولة إلى غنيمة.

2. الإدارة: خيال الدولة الحديثة
تبدو الإدارة الموريتانية، في مظهرها الخارجي، مؤسسية وحديثة: وزارات، مديريات، مصالح عمومية. لكنها، في الجوهر، مجرد واجهة. فالقرار الإداري لا يُصاغ وفق منطق بيروقراطي عقلاني، بل تحت تأثير الولاءات القبلية والعلاقات الشخصية.

نحن أمام إدارة مزدوجة: رسمية في الشكل، تقليدية في العمق. هذا التناقض لا يولد فقط سوء الأداء، بل يُنتج نوعًا من الإنكار الجماعي: فالنخب ترفع شعارات الإصلاح، لكنها تمارس الحكم بعقلية المحاصصة. وبهذا، تتحول الإدارة إلى وسيلة لإعادة إنتاج النظام لا لتحديثه.

3. نظام يلتهم نفسه: الفساد كنظام طبيعي
الفساد في موريتانيا ليس مجرد انحراف فردي، بل أصبح نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا متكاملًا. لقد صار وسيلة للتعايش مع غياب القانون، والتأقلم مع انهيار العقد الاجتماعي.

الشباب لم يعودوا يثقون بالمدرسة كأداة للترقي، بل بالانتماء. ورجال الأعمال لا يراهنون على السوق الحرة، بل على “الوساطة”. والمواطن العادي لا يعوّل على الحقوق، بل على “المعرفة” والرشوة.

هذه المنظومة تُعيد إنتاج نفسها بلا توقف: كلما ضعفت الدولة، ازدادت الحاجة إلى القبيلة؛ وكلما تعاظمت القبيلة، تراجعت الدولة. إنها دائرة مفرغة، يغذيها نظام حكم عاجز عن كسرها، بل يتغذى منها.

4. أزمة الإصلاح: مفارقة التغيير
كل حديث عن الإصلاح يصطدم بمفارقة قاتلة: لكي تُبنى دولة حديثة، يجب إضعاف البنى التقليدية؛ لكن هذه البنى هي آخر ما تبقّى من أدوات الحماية الاجتماعية للمواطن. والنظام الحاكم يستعمل هذا الواقع كذريعة للجمود، لكنه في الحقيقة هو من عمّق هشاشة الدولة، وعزز ارتهان الناس للقبيلة عبر سياسات التهميش والتفكيك.

أما الأحزاب، فهي إما صدى للعصبيات نفسها، أو أدوات لتزيين واجهة الحكم. والممولون الأجانب فقدوا مصداقيتهم وقدرتهم على الضغط. ولم يبقَ سوى أمل ضئيل في تحوّل بطيء: طبقة وسطى صاعدة، شباب ناقمون على النظام الوراثي، وحركات اجتماعية ترفض حكم القبيلة.

لكن، طالما استمر الحاكم في معاملة الدولة كبقرة تُحلب لا كعقد اجتماعي، ستبقى موريتانيا رهينة “فوضى هادئة”، حيث لا يُعد الفساد فضيحة، بل قدرًا طبيعيًا
ماذا يجب فعله؟ إعادة تأهيل الدولة كمشروع جماعي

إذا كانت موريتانيا اليوم تعاني من دولة مختلة، فإن التحدي الأساسي ليس فقط في فهم طبيعة هذا الاختلال، بل في إعادة تأهيل الدولة كمشروع جماعي يحقق التنمية الشاملة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية. لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على حلول ترقيعية قصيرة المدى، بل يجب وضع رؤية استراتيجية تعيد تعريف دور الدولة، وتحوّل مواردها الطبيعية إلى أدوات لبناء مستقبل مستدام.

1. كسر الحلقة الريعية: تحويل الموارد إلى تنمية مستدامة
تمتلك موريتانيا جميع المقومات للخروج من فخ الفقر المؤسساتي، لكنها لا تزال عالقة في نموذج اقتصادي ريعي يجعلها تعتمد على تصدير المواد الخام بدل استثمارها في مشاريع تنموية. فالموارد الطبيعية مثل الحديد، الغاز، الذهب، الفوسفات، الزراعة، والأسماك ليست مجرد مصادر دخل، بل يمكن أن تكون أساسا لتحول اقتصادي حقيقي إذا تم استخدامها بذكاء.

2. خلق إدارة حديثة لا تخضع للولاءات القبلية
– إعادة تأهيل الدولة تعني أيضًا إعادة بناء إدارتها بحيث تصبح قائمة على معايير مهنية لا على الولاءات الشخصية والجهوية. يجب وضع حد لمنطق التوظيف بالانتماء، واعتماد معايير واضحة تقوم على الكفاءة والاستحقاق.
– يجب تعزيز الشفافية في عمل المؤسسات الحكومية، بحيث يتم إنشاء أنظمة رقابة فعالة تمنع الفساد وتضمن المساءلة الحقيقية.

3. إصلاح العقد الاجتماعي: من القبلية إلى المواطنة
– لا يمكن بناء دولة حديثة في ظل استمرار القبلية كآلية رئيسية لتوزيع السلطة والموارد. يجب الانتقال من مجتمع يقوم على الهويات الأولية إلى مجتمع يقوم على المواطنة كمرجعية أساسية.
– يتطلب ذلك إصلاحات جذرية في التعليم، بحيث يتم تعزيز قيم المواطنة والانتماء الوطني بدل تكريس الولاءات القبلية. كما يتطلب سياسات اجتماعية تقلل من الفوارق بين الفئات، بحيث يشعر الجميع بأن الدولة تمثلهم وليس فقط فئة معينة.

4. خلق فضاء سياسي ديمقراطي فعليّ
لضمان تطوير نظام سياسي يعزز الديمقراطية ويشرك جميع فئات المجتمع، يجب اتخاذ الخطوات التالية:
– إعادة النظر في التعديلات القانونية: يجب مراجعة التعديلات الأخيرة على قانون الأحزاب لضمان عدم إقصاء الأحزاب الناشئة والصغيرة، مع تحقيق توازن بين تنظيم المشهد السياسي واحترام التعددية.
– إشراك جميع الفئات في الحوار الوطني: يجب أن يكون الحوار الوطني أداة حقيقية لإعادة بناء الشرعية السياسية، من خلال إشراك جميع الفئات، بما في ذلك الشباب، النقابات، والمجتمع المدني، في رسم ملامح المستقبل السياسي للبلد.
– تعزيز الشفافية والمساءلة: وضع آليات تضمن الشفافية في تمويل الأحزاب ومراقبة أدائها، مع تعزيز دور المؤسسات الرقابية والمجتمع المدني في هذا المجال.
– تطوير الثقافة السياسية: تشجيع التوعية السياسية وتعزيز الثقافة الديمقراطية بين المواطنين، لضمان مشاركة فعّالة ومستدامة في العملية السياسية.

موريتانيا أمام مفترق طرق: البقاء في حلقة الفشل أم بناء دولة للجميع؟
إن استمرار النموذج الحالي للدولة يعني أن موريتانيا ستظل عالقة في وضع هش، حيث يبقى الاستقرار سطحيًا بينما تتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. الدولة الحديثة لا تُبنى على حلول ترقيعية، بل على مشروع وطني طويل المدى، قائم على التشاركية والاستدامة

الخيار بيد من يملك الشجاعة السياسية لاتخاذه.

شاهد أيضاً

بيان من اللجنة الوطنية لحقوق الانسان

في إطار مهامها المتعلقة برصد وحماية الحقوق الأساسية، قامت بعثة من اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان …