من صفحة وطن فى سطور ( وحده خلف القضبان)

كان يوم ما أسما تهتز له الأركان ، وسلطانًا تخشاه الألسن قبل الأقدام، وكانت كلمته أمرًا، وصمته هيبةً، لا يجرؤ أحد على اعتراضه. عشر سنواتٍ مضت وهو سيد القصر، تبني تحت سلطته الأوطان، وتُشيّد بقراراته المصانع والجسور، يحيط به رجالٌ يقسمون له بالولاء، وينحني أمامه من يريد مجدًا أو منصبًا.

كان صديقًا لي الرئيس الحالي صداقة لم تبدأ في أروقة السياسة، بل في ساحات الأقدار التي جمعت بين رجلين تفرّقا في المصير. كانا كتفًا بكتف، يحلمان بمستقبل تصنعه العزيمة، ويخوضان دروب الحكم تحت رايات العدل والقوة. لكن ما أقسى الزمن حين يغدر، وما أشد الخيانة حين تأتي ممن ظننتهم حصنك الحصين.
بعد أن سلّم السلطة طواعيةً، مطمئنًا أن البلاد في أيدٍ أمينة، لم يكن يعلم أن الذئاب كانت تتهيأ للانقضاض. حاشيته التي كانت تصفق له بالأمس، هم أول من كسروا قلمه، وكتبوا به تهمًا زائفةً أودعته السجن. لم يرافقه أحد، لم يسأل عنه أحد، كأن العرش الذي كان بالأمس يحمله على الأكتاف، صار اليوم عبئًا يرغب الجميع في نسيانه.
أربعون عامًا من العطاء، انتهت في زنزانةٍ ضيقة، حيث لا مجد ولا سلطة، فقط حيطانٌ باردة وقضبانٌ منسية. سبع سنواتٍ وهو خلف القضبان، لا لذنبٍ جناه، بل لأن المنافقين حين ينالون ما يريدون، يدفنون من ساعدهم تحت ركام التهم والنسيان.
لم يكتفوا بسجنه، بل صادروا حقه في الدواء، وكأنهم يريدون أن يموت ببطء، أن يتحول جسده الذي قاد الوطن إلى جسدٍ منهكٍ يُصارع المرض وحيدًا. منعوه من السفر، وكأن الحدود التي كان يحكمها صارت جدرانًا تعيقه، ومنعوه من رؤية أسرته، وكأنهم أرادوا أن يسجنوه في جسده قبل أن يسجنوه في زنزانته.
ما أقصر ذاكرة البشر، وما أشد قسوة السياسة حين تصير سيفًا يقطع رقاب صانعيها. الأمس كانوا ينحنون له، واليوم يتنكرون لوجوده. الأمس كان اسمُه أمانًا، واليوم صار اسمه تهمة. السلطة كفّ من رمل، مهما قبضت عليها بقوة، تسربت منك ذرةً ذرة، حتى لا يبقى منها إلا فراغٌ في راحة اليد.لكن الأيام تدور، والسجون لا تبقى مغلقةً على الأحرار، كما لا تبقى العروش ثابتةً تحت أقدام الخونة. ويبقى المجد الحقيقي ليس في الألقاب التي يحملها الإنسان، بل في الأثر الذي يتركه حين تُطوى صفحته من كتاب الزمن.
بعد أن كان اسمًا تتحرك نحوه الأيادي مصافحةً أو متوسلة، فهو ولي النعمة، والقائد الذي صنع من البلاد مجدًا، وشيد فوق أرضها المعجزات. لعشرة أعوام، كان الرجل الذي تُفتح له الأبواب قبل أن يطرقها، وتُكتب الأوامر قبل أن ينطق بها، وكان اسمه كفيلًا بإسكات العاصفة أو إشعالها.
لكن المنافقين لا يتركون العروش دون أن يسكبوا عليها سمومهم. كانوا حوله يحيطونه بالمجد الكاذب، يتزاحمون على كرسيه لا حُبًا فيه، بل انتظارًا للحظة ضعفه. وحين سلّم السلطة بطريقة سلمية، مطمئنًا أن جهده لن يضيع، وأن وفاء الرجال سيحفظ له مكانته، كانت الخيانة أسرع مما ظن.

وحده، كان وحده حين زجوا به في السجن. سبع سنواتٍ والزمان يدور، والأسماء التي كانت تتبارى في مديحه صارت تتسابق في إنكار معرفته. الحاشية التي كانت تهتف باسمه، هي ذاتها التي كتبت التقارير ضده. كل شيء تبدّل، حتى وجه الوطن الذي بناه بيديه صار غريبًا عنه، كأن الأرض لفظته بعدما كان سيّدها.
ها هو الآن مجرد نكرةٍ في نظر من كان بالأمس يسير خلفه صاغرًا.
ما أغرب الدنيا، ترفع اليوم من ستسحقه غدًا، وتُصفّق لمن ستُدير له ظهرها بعد حين. من يظن أن العرش يدوم، لم يفهم بعد أن السلطة ليست إلا سرابًا، تقترب منه فتظنه ماءً، حتى إذا وصلت، أدركت أنه خدعةُ بصر. ليس الظلم في السجن، بل في الغدر الذي قاد إليه. ليس المرض في الجسد، بل في نفوس المنافقين الذين يبيعون الولاء كما يبيع التجار بضاعتهم. الأيام دول، ومن ظلم اليوم، سيُظلم غدًا، وما يبقى حقًا ليس الكرسي، ولا الحاشية، بل أثر الأفعال حين تزول الألقاب.

شاهد أيضاً

تدشين تعمير مدن التازر

أطلق رئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، مساء اليوم في ملعب ملح بنواكشوط الشمالية، برنامج …