في الوقت الذي ينتظر فيه الموريتانيون من قطاع الثقافة أن ينهض بمسؤوليته التاريخية في استعادة الاعتبار للموروث الثقافي الوطني، وتحفيز الإبداع الأصيل، ودعم المبدعين من شعراء وكتاب وروائيين ومسرحيين، تتسع الفجوة بين ما يُفترض أن يكون وما هو قائم فعلاً. فقد بات المشهد الثقافي في البلاد رهينة موجة متصاعدة من المهرجانات التي تفتقر إلى المضمون، وتغيب عنها الرؤية، وتحضر فيها الميوعة والسطحية بوصفهما عنواناً لمرحلة فكرية وثقافية مضطربة.
خلال أسبوع واحد فقط، شهدت البلاد أربعة مهرجانات متزامنة؛ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، في استعراض عبثي لا يخدم الثقافة ولا يرتقي بالوعي العام. الوزير المسؤول عن القطاع بدا في سباق محموم لتلبية الدعوات والتقاط الصور، وكأن الهاجس هو الحضور البروتوكولي لا بناء سياسة ثقافية مستدامة. فتحول المشهد إلى ما يشبه سوقاً مفتوحة للعلاقات العامة والمجاملات، تغيب فيها قيم الإبداع لصالح ضجيج الاحتفالات.
الأخطر أن هذا الانحدار وصل إلى مهرجان رسمي حضره رئيس الجمهورية قبل أسابيع، حيث سقط الشعر في مستنقع المديح والتزلف، وتحوّل المنبر إلى مساحة للاستعراض اللفظي والانحلال الفني، بدل أن يكون منارة للتنوير وإحياء الموروث الشنقيطي الأصيل. هكذا تُفرغ الثقافة من معناها، ويُختزل الإبداع في حفلات رقص وغناء لا تحمل أي بعد جمالي أو معرفي.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد فوضى تنظيمية عابرة، بل هو مظاهر تجارية لثقافة الميوعة، تكرّس الانحطاط الأخلاقي والفكري، وتسيء إلى صورة “بلاد شنقيط” التي عُرفت عبر القرون باسهاماتها في الفكر العربي والإسلامي. ولعلّ مسؤولية هذه الانتكاسة لا تقع على الفنانين والمشاركين وحدهم، بل على رأس الهرم الثقافي الذي حوّل الوزارة إلى منصّة لتلميع الذات وتوزيع الرعايات دون سياسة أو تخطيط.
ولتصحيح المسار، ينبغي أن تبادر الدولة إلى إعادة هيكلة القطاع الثقافي ضمن رؤية وطنية واضحة، تبدأ بإقالة المسؤول الذي أدار ظهره لجوهر الثقافة، وتُتوج بإنشاء لجنة وطنية عليا للثقافة تكون مستقلة وفاعلة.
تتولى هذه اللجنة وضع ضوابط صارمة لتراخيص المهرجانات ودعمها، وتوجه التمويل إلى المشاريع الجادة التي تخدم الهوية الوطنية وترعى الإبداع الأصيل. كما يجب تمكين الخبراء وأصحاب الفكر الحقيقيين من رسم السياسات الثقافية، بدل ترك المنابر في يد من يلمعون السطح ويفرّغون المضامين.
لقد آن الأوان لأن تستعيد موريتانيا رسالتها الثقافية الرائدة، وأن تُعيد للعقل والفكر مكانتهما في مواجهة ظاهرة تآكل الوعي تحت أضواء المهرجانات التافهة. فلا نهضة لأمة تستبدل قيمها الراسخة بعروض سطحية تخدع الجماهير وتطمس وجدانها.
Sultan Elban سلطان البان
28-12-2025
LONDON-CCCU
الهضاب إنفو موقع إخباري مستقل