
ثمة حقيقة مخبوءة تحت ضجيج اليومي، حقيقة لو انكشف سترُها لخرس الإنسان كما تخرس الآلة حين يُنزَع عنها تيار الحياة. نحن نقف، ونسير، ونتكلم، ونفكّر، لا لأننا نملك هذه القدرة ملكًا ذاتيًا، بل لأن يدًا خفية تحملنا في كل لحظة دون أن نشعر. لحظة واحدة فقط من غياب تلك العناية التي تحوطنا، وسينهار هذا الكيان الذي يتوهّم الثبات ويظن أنه قائم بذاته، كما ينهار عمود من رمل أُوهم بأنه صخرة.
الإنسان، في غفلته الموروثة، يتعامل مع وجوده بوصفه معطى نهائيًا: أنا موجود، إذن أنا أفكر… إذن أنا قادر… إذن أنا مستقل. لكنه ينسى أن هذا “الأنا” قائم على خيط دقيق، خيط لو قُطع انطفأت كل الأفعال التي يستهين بها: حركة الرئة، نبضة القلب، ومضة الوعي، اتزان الخطوة، وانسياب الصوت. كم نحن بسطاء حين نعتقد أن نهوضنا من الفراش كل صباح هو إنجاز شخصي، وأن السير خطوة خطوة هو مهارة نمتلكها، وأن النطق جهد لغوي نصنعه بإرادتنا!
فلنسأل أنفسنا دون خوف:
من الذي يضمن أن يظل الدم يجري في عروقنا في اللحظة التالية؟
من يحفظ هذا التوازن العجيب بين ما نعرفه وما نجهله، بين ما نرغبه وما نخشاه؟
من يمنح العقل قدرته على أن يفتح نافذة الإدراك بدل أن يغرق في صمت مطبق؟
من الذي يُبقي هذا الكون كله متماسكًا حتى لا يتحول إلى فوضى بلا معنى؟
لو أدرك الإنسان حقيقة قيامه، حقيقة أنه “محمول” لا “قائم”، وأنه يُحيا لا يَحيا، وأنه يُنطَق به لا ينطق بنفسه، لسقطت غروره دفعة واحدة، ولأدرك أن أكبر سر في الوجود ليس أن نتحرك، بل أن يُسمَح لنا بالتحرك. وليس أن نفكر، بل أن تُفتح لنا أبواب الفكر. وليس أن نعيش، بل أن يُمنح لنا هذا الامتياز دون ثمنٍ نستحقه.
كم من خطوة نمشيها دون أن ننتبه أن ملايين العمليات الدقيقة في أجسادنا تعمل بتناسق مذهل؟
كم من كلمة نقولها دون أن ندرك أن قدرة النطق نفسها معجزة مستمرة؟
كم من فكرة تمرّ بنا دون أن نسأل من أين جاء الضوء الذي أتاح لها الظهور؟
ولو انكشف الغطاء للحظة، لو رأى الإنسان هشاشته الحقيقية، لعجز عن النطق، ولتجمد مكانه كما تتجمد الماكينة حين تُسحَب عنها الطاقة. لكنه غطاء رحيم… غطاء يمنحنا القدرة على الحركة دون أن نفكر في ثمنها، وعلى الحياة دون أن نرى خيوطها، وعلى الكلام دون أن نفهم كيف تتشكل المعاني على طرف اللسان.
وهنا يتولد سؤال آخر:
هل كان الإنسان ليحتمل هذا الوعي الكامل لو تجلى عليه؟
هل يستطيع قلبٌ محدود أن يحمل معرفةً لا حد لها؟
ألسنا–برغم جهلنا–في نعمة؟ ألسنا بجهلنا هذا محفوظين من الانهيار؟
إننا نعيش في معجزة دائمة، لكننا نمرّ بها كما يمرّ الغافل أمام حدائق مفتوحة لا يرى منها سوى ظلّ العبور. ولو عرف الإنسان قدر ما يُعطى له في كل لحظة، لما تكلم إلا همسًا، ولما مدّ قدمه إلا بخشوع، ولما نسب إلى نفسه شيئًا إلا باستحياء.
الحمد لله الذي منحنا القدرة على أن نقوم دون أن نتفتت، وأن نمشي دون أن نتعثر في أسرار أجسادنا، وأن نتكلم دون أن نغرق في صمت الكون، وأن نفكر دون أن ننكسر تحت ثقل الحقيقة. الحمد لله الذي يهبنا كل شيء ولا نملك نحن إلا أن نندهش.
الهضاب إنفو موقع إخباري مستقل