شهادات من الميدان…العسكريات الموريتانيات وفن التعامل مع السخرية

على طول شارع جمال عبد الناصر كان الموريتانيون محتشدين لمتابعة التمارين العسكرية الأخيرة استعدادًا للعرض المزمع إقامته تخليدًا لذكرى عيد الاستقلال.

تقدّمت مجموعة من النساء بخطى منسقة ضمن وحدات الاستعراض، ورغم أن الحضور النسائي لم يكن جديدًا تمامًا، إلا أنه أعاد إلى الواجهة سؤالًا يتجدد كلما ظهرت امرأة في صفوف القوات النظامية:

كيف انتقلت المرأة الموريتانية من فضاء الملحفة والمسارات الاجتماعية التقليدية إلى موقع يتطلب الانضباط والتدريب والمهام الرسمية؟

رحلة بدأت بلا ضجيج

مع دخول أولى الدفعات النسائية إلى قطاعات الجمارك والشرطة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، برزت ملامح تغيير بطيء.

أثار ظهور فتيات في تلك القطاعات آنذاك نقاشات واسعة حول شكل الزي وطبيعة المهام وحدود الدور.
غير أن هذا النقاش لم يمنع تتابع الدفعات النسائية في قطاعات الأمن والجيش والدرك والحرس.

ومع مرور السنوات أصبحت المدن الداخلية والكبرى على حد سواء تعرف حضورًا نسائيًا في المفوضيات والنقاط الأمنية، وفي الإدارات العسكرية وفي مهام ميدانية وإدارية متنوعة.

ملاحظات من الميدان

نقل مراسل موقع “موريتانيا الآن” الذي كان حاضرًا في قلب الاستعراض العسكري  موجة تعليقات من بعض المواطنين تجاه السيدات المشاركات في العرض العسكري، طرح بعضها سؤالًا عن الدور الحقيقي للمرأة في المجتمع.

ومن جانبهم أظهر بعض الحضور تفهمًا وتشجيعًا للفتيات العسكريات.

وفي حديث مع بعض المواطنين في ميدان العرض قال السيد يسلم بيروك إن المرأة الموريتانية ـ حسب وجهة نظره ـ لا يجب أن تكون حاضرة إلا في صالونات التجميل وميادين التعليم والصحة والوظائف التي لا تتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا، مؤكدًا أنه لن يسمح لإحدى بناته أو أخواته بالالتحاق بصفوف القوات المسلحة.

على الجانب الآخر تحدّثنا مع السيدة مريم التي جاءت لمشاهدة ابنتها المشاركة في الاستعراض.
لاحظنا حماسها منذ بداية العرض، فسألناها عن السبب لتجيب:
“لدي ابنتان مشاركتان في العرض العسكري، أنا فخورة جدًا بهما”.

فن التعامل مع السخرية

حاولنا التحدث مع عسكريات موريتانيات قبل بدء العرض العسكري، وسألناهن بوضوح: كيف تتعاملن مع تعليقات الناس؟

أكدت عسكريتان فضلتا عدم الكشف عن اسميهما أن أغلب النساء العاملات في صفوف القوات المسلحة يعملن في التمريض وخياطة الملابس العسكرية، مؤكّدات فخرهن بقدرتهن على التضحية من أجل خدمة وطنهن.

ترقيات تكشف نقاشًا قديمًا

أعادت ترقيتان أخيرا إلى رتبة “عقيد” الجدل حول مدى استيعاب المجتمع لهذا الحضور النسائي.
غير أن النقاش ـ كما في كل مرة ـ كان أقل تعلقا بالترقية نفسها وأكثر ارتباطًا بصورة المرأة في المخيال الاجتماعي؛ وهي الصورة التي ظلت حاضرة في المجال الأسري والاقتصادي والثقافي، مقابل صورة أخرى في المؤسسات ذات الطابع النظامي.

الجدل أظهر أن المجتمع يتابع هذه التحولات بانتباه، حيث لا يزال حضور المرأة في المؤسسات الرسمية مرتبطًا بأسئلة تتجاوز حدود الوظيفة.

ازدواجية الدور…

تجارب النساء العاملات في القوات النظامية كشفت أن دخولهن هذا القطاع لم يلغ دورهن الاجتماعي ولم يعزله، فقد أصبح من المعتاد رؤية امرأة تنهي نوبة عملها الرسمية ثم تعود لمواصلة مسؤولياتها الأسرية.

هذا الجمع بين المجالين العام والخاص أصبح جزءًا من صورة المرأة العاملة في موريتانيا، سواء في التعليم أو الصحة أو الأمن.

الزي الرسمي… إضافة للذاكرة

لم تؤدّ الوظيفة النظامية إلى محو الملحفة أو إزاحتها من الذاكرة الاجتماعية.
الكثير من المنتسبات للقطاعات الأمنية يواصلن حضورهن في المناسبات الاجتماعية والقيام بالأدوار التقليدية ضمن محيطهن، كما أن الزي العسكري الذي يرتدينه صُمّم ليتماشى مع العادات الموريتانية في اللباس النسائي.
وبذلك ظل الزيّ الرسمي بعدًا إضافيًا في حياة المرأة.

تحولات عالمية وسياق محلي

عالميًا توسّع حضور النساء في المؤسسات العسكرية والأمنية بوتيرة سريعة منذ بدايات الألفية.
ورغم اختلاف الظروف بين الدول فإن القاسم المشترك يتمثل في إعادة تعريف الأدوار المهنية بعيدًا عن القوالب التاريخية.

أما في موريتانيا فتأتي هذه التحولات ضمن سياق اجتماعي وثقافي خاص، تحكمه صورة ممتدة للمرأة في مجالات التعليم والأسرة والتجارة التقليدية، قبل أن تلتحق بسلسلة من الوظائف الرسمية خلال العقود الأخيرة.

ويمكن القول إن ما يحدث ليس إلا جزءًا من حركة تحول مستمرة تُرصَد ضمن التغيرات التي عرفها المجتمع الموريتاني خلال العقود الأخيرة.

شاهد أيضاً

بقيمة مليون أوقية جديدة.. البنك الشعبي يطلق مسابقة لدعم رواد الأعمال

أعلن البنك الشعبي الموريتاني عن إطلاق مسابقة موجهة لدعم رواد الأعمال وأصحاب المشاريع الناشئة تحت …