في لحظةٍ يتكاثف فيها الحصار على غزة حتى يكاد يخنق أنفاس المدنيين، وفي وقتٍ يبيت فيه الشعب الفلسطيني بين جوعٍ وخوفٍ وضياع أملٍ في الفرج، تتصدر الأنباء عن قيام كتائب القسام بعمليات إعدامٍ ميدانية بحق من تراهم قد “تقربوا من إسرائيل” أو خانوا القضية. خطوةٌ تثير أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، وتفتح باباً للنقاش حول ما الذي نربحه حين نحاكم الجائع والمقهور كما لو كان عدواً مدججاً بالسلاح.
لم تحرر تلك الإعدامات شبراً من فلسطين، ولم تخفف وطأة الحصار عن أمٍّ تبحث عن طعامٍ لأطفالها أو مريضٍ يفتش عن دواء. إنّ السلاح، مهما كان مقدساً في الدفاع، يفقد معناه عندما يتحول إلى أداة لتصفية الداخل، بينما العدو ما زال يطوق الأرض والسماء والبحر.
ربما يحتاج الإخوة في القسام، وكل من يحمل همّ المقاومة، إلى وقفة تأمل في سورة الأنفال، تلك السورة التي علمت المؤمنين أن النصر ليس بعدد القتلى ولا بحجم البطولات المروية في الميدان، بل في طهارة المقصد وعدالة القلب وصبر الروح على الابتلاء. قالت الآية الكريمة:
> “واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم”
فالمحنة ليست فقط في الحصار، بل في القدرة على أن تبقى إنساناً وسط نار الغضب والدم.
لقد مرّت أمة الإسلام بمحنٍ أعظم، وكان خيار العفو فيها أحياناً أعظم من سطوة الرد. إن الشعب الفلسطيني، الذي قدّم من الدم ما لم تقدمه أمة، يستحق أن يُرحم لا أن يُرعب، وأن يُواسى لا أن يُدان. فالمقاتل الحق لا يوجّه بندقيته إلى صدور أهله، ولا يقيم محكمةً على ركام بيوتٍ لم يبق منها سوى أسماء الأطفال.
يا رجال القسام، الصبر والعفو ليسا ضعفاً، بل قوةُ من أدرك أن العدو الحقيقي ليس بيننا، بل أمامنا. وأن من يخطئ في زمن الحصار ليس بالضرورة خائناً، بل إنسانٌ أثقله الجوع والخذلان. اقرأوا الأنفال، لتدركوا أن النصر يبدأ من صفاء القلوب قبل أن يبدأ من فوهات البنادق.
فالعفو عند المقدرة، في مثل هذه اللحظات، ليس ترفاً أخلاقياً، بل فعل مقاومةٍ راقٍ في وجه القسوة التي يريدها الاحتلال سلاحه الأقوى.
إن ما يجري اليوم يثير ألماً عميقاً وأسئلة لا بد من طرحها:
هل بعد كل هذا النزيف من الدماء والدمار والجوع، يحتاج الفلسطيني إلى مزيدٍ من الرصاص من أبناء وطنه؟
هل المطلوب أن يتحول الغضب المقدس من الاحتلال إلى الداخل الجائع والمقهور؟
لقد علمنا القرآن، في سورة الأنفال تحديداً، أن النصر لا يكون بالعنف وحده، ولا بالانتقام، بل بإصلاح النفس، وتزكية النية، والصبر على البلاء. قال تعالى:
> “وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم”
وهي الآية التي تختصر فلسفة القوة الحقيقية: أن تمسك نفسك حين يغرّك الغضب، وأن تختار العفو حين يكون الانتقام أسهل.
إن الإنسان، يحمل في داخله خيراً وشراً، والامتحان ليس في القدرة على القتل، بل في القدرة على التمييز بين من خانه عن جهلٍ أو جوع، ومن باع قضيته عن قصدٍ ومصلحة. وما أكثر الذين انهاروا تحت ثقل الجوع والخذلان دون أن يكونوا أعداءً لقضيتهم.
يا رجال القسام، أنتم حماة الأرض والعقيدة، ولكن لا تجعلوا من السلاح حكماً على قلوب الناس. فإن كان في الأمة من أخطأ، فدواؤه الستر والموعظة، لا الرصاص. لأن الأمة التي تقتل أبناءها في لحظة الضعف، تقتل روحها قبل أن تقتلهم.
اقرأوا سورة الأنفال، ففيها سرّ التوازن بين الحرب والرحمة، بين الشجاعة والعفو. فالعفو في زمن الغضب هو أشرف أنواع المقاومة، وأصدق دليل على الإيمان.
فما لم نحرر نفوسنا من الكراهية، فلن نحرر أرضنا من الاحتلال