الاستنزاف تحت نشوة الانتصار الوهمي — الاستعمار الاقتصادي الجديد بقلم الشيخ ماء العينين اكليب

عندما تتحول نشوة الانتصار الجماهيري إلى غطاء لعمليات مالية معقدة، يتبدَّى الوجه الآخر للاستنزاف: استعمار اقتصادي لا يحتاج إلى جنود على الأرض، بل إلى منصات، وشركات وسماسرة، ووعود زائفة تبثُّها احتفالات مؤقتة. هذه الظاهرة ليست مجرد نظرية؛ إنها نمط عالمي يُعرف بالـ«استعمار الجديد» أو الاستعمار الاقتصادي، حيث تُستغل علاقات السوق والعولمة لتمرير سياسات تُضعف سيادة الدول وتُخصم ثرواتها.

في السياق المحلي، نرى مظاهر هذا الاستنزاف تتكوّن على شكلين مترابطين: الأول اقتصادي بحت — منصات تجميع التبرعات، شراكات تجارية عالمية، ورسوم وعمولات تحوّل مبالغ كبيرة إلى جيوب وسلاسل شركات خارجية؛ والثاني اجتماعي-رمزي — نشوة الانتصار على منصات التواصل الاجتماعي التي تُبسّط وتُجمّل الأمر، فتُحوّل المتفرّجين إلى متبرعين ومستهلكين بلا رقابة. دراسات وخبراء امتدحوا آليات جمع الأموال عبر الإنترنت لكن حذّروا أيضاً من استغلال الحملات والمنصات لأغراض تتجاوز النوايا الخيرية، بما في ذلك تحويلات بطرق تفتقر للشفافية.

ما يحدث عمليًا في ساحات الاحتفال الإلكترونية هو أن ملايين الأوقية — أو أي عملة محلية — تُجمع باسم «نصرة» أو «دعم» أو حتى «احتفال» ثم تذهب نسبة كبيرة منها كرسوم ومنصات إلى شركات وسطاء، وغالبًا ما تكون قواعدها القانونية والمالية خارج رقابة الدولة. أما المتبقي فأحيانًا يتجه نحو حسابات فردية أو شبكات وسيطة يصعب تتبّعها أو تحويلها للاستخدامات الوطنية المباشرة. هذا النمط يذكّرنا بكيفية عمل سلاسل الاستغلال المالي الحديثة التي تستغل الفوارق في أنظمة الرقابة والتنظيم بين بلدان الجنوب وشركات الشمال.

على مستوى الأسماء والشخصيات، يظهر جيل من المؤثرين المحليين الذين يصبحون واجهة لهذه الحركات: يحصدون تفاعلات كبيرة، هدايا رقمية، وتبرعات تُترجَم إلى أرباح عبر المنصات. حالات متداولة وتغطية إعلامية عن نشاطات تيكتوكرز وشخصيات رقمية تُبيّن كيف يمكن أن تتحول شعبية دقيقة إلى أرباح حقيقية — لكن من واجبنا التذكير بأن الشعبية لا تعادل دائماً إدارة شفافة للأموال ولا تعفي الوسطاء أو المنصات من المساءلة. أي اتهامات محددة تجاه أشخاص أو جهات يجب أن تُبنى على أدلة قابلة للتحقيق القضائي والإداري قبل عرضها كوقائع.

لماذا نسميها «استنزافًا»؟

1. لأنها تستهدف القدرة الشرائية للمواطنين: تبخُّر مبالغ ضخمة من جيوب الناس تحت شعارات عاطفية مؤقتة.

2. لأن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال يَسيل عبر شبكات عمولات ومنصّات دولية تُحمّل رسومًا عالية أو تُحوّل القيمة الحقيقية بعيدًا عن الوجهة المعلنة.

3. لأنها تكرّس اعتمادًا على فاعلين خارجيين بدل بناء آليات وطنية شفافة لإدارة الموارد والخدمات.

مخاطر ملموسة

تقويض السلم الاجتماعي عندما يُحرم أهل الاستحقاق من فرص العمل أو الدعم بسبب تحويلات غير شفافة.

تقوية نفوذ شركات ومؤسسات خارجية تُسيطر على قنوات تمويل مهمة.

إضعاف ثقة الجمهور في المبادرات المدنية والحكومية بسبب شبهة الاستغلال.

ماذا يجب أن يُفعل فورًا؟

1. الشفافية الإجبارية: أي حملة جمع أموال أو شراكة تجارية يجب أن تنشر كشفًا واضحًا بالمداخيل والنفقات والرسوم.

2. قواعد تنظيمية للمنصات: فرض ضوابط محلية على المنصات العاملة في البلاد أو إلزامها بوجود شريك محلي يخضع للقانون.

3. آليات رقابة مالية مستقلة: فتح تحقيقات أو تدقيقات حسابية متى ظهرت تحويلات كبيرة أو شكوك في وجهة الأموال.

4. حماية المستفيدين: استحداث قنوات قانونية تسمح بتحويل جزء من التبرعات مباشرةً إلى حسابات وطنية أو صناديق تديرها جهات مسؤولة.

5. تثقيف الجمهور: حملات توعية حول مخاطر التبرع غير المدقق وكيفية التمييز بين الحملات الموثوقة والمشبوهة.

لا يمكن محاربة ظاهرة «الانتصار الوهمي» بالصرخة وحدها؛ لكنها بداية ضرورية كي ندرك أننا أمام نظام جديد للاستغلال، يستغل العاطفة والاحتفاء العام ليحوّل موارد الناس لبنى اقتصادية غير مُحاسبة. المواجهة الحقيقية تبدأ بقوانين واضحة، ومسائلة فعلية، ووعي مجتمعي قادر على التفريق بين الاحتفال الوطني والابتزاز الاقتصادي المقنّع. فإذا لم نضع قواعد وحواجز الآن، فإن استنزاف اليوم سيتحوّل إلى تبعية مؤسساتية غداً — ذلك هو جوهر الاستعمار الاقتصادي الجديد الذي يجب التصدي له قبل فوات الأوان.

شاهد أيضاً

نواكشوط تحتضن أعمال ملتقى الاستثمار الموريتاني السعودي

احتضنت نواكشوط أمس  الأربعاء أعمال ملتقى استثماري رفيع المستوى جمع بين موريتانيا والمملكة العربية السعودية، …