كتب أستاذ الفيزياء المصطفى كاري

تابعتُ مثل غيري من الموريتانيين ما يردده بعض الشباب المتصدرين للمشهد الافتراضي، ممن يركبون أمواج العرقية بحثًا عن شهرة أو منصب. وبوصفي شابًا عاش في ربوع الوطن شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، أقولها بوضوح: ما يروّجونه لا يعكس واقع موريتانيا، بل يزرع الشحناء ويمزق السلم الاجتماعي.
إن تاريخ هذا البلد شاهد على أن كل المكوّنات شاركت في صنعه، ولكل مرحلة نصيبها:
أولًا: موريتانيا القديمة، حيث تعاقبت الحضارات الحجرية والآشولية والعاترية، ومر القرطاجيون والرومان بسواحلها قبل أن تُعرف بصحراء الملثمين مع بدايات الفتح الإسلامي.
ثانيًا: موريتانيا الوسيطة، وفيها دخل الإسلام وظهرت أولى الكيانات السياسية، ثم قامت الدولة المرابطية التي وحّدت الصحراء والمغرب والأندلس، تلتها تبعية للممالك السودانية الكبرى حتى مقدم بني حسان وبداية العهد الحساني.
ثالثًا: موريتانيا الحديثة، حين برزت الإمارات الحسانية كإمارة اترارزة وآدرار ولبركنة، وتزامن ذلك مع الحضور الأوروبي وحروب العلك، ثم تجربة ناصر الدين الإصلاحية التي شكلت ملامح المجتمع المعاصر.
رابعًا: موريتانيا المعاصرة، حيث فرض الاستعمار الفرنسي سيطرته أواخر القرن التاسع عشر، لتنشأ المقاومة المسلحة والفكرية، حتى نالت البلاد استقلالها في 28 نوفمبر 1960، وولدت الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
من يفكك خيوط هذه المراحل يعلم يقينًا أن لا أحد يحتكر التاريخ، ولا مجال لمزايدة أو تبجح. مشكلتنا اليوم ليست العرق ولا الجهة، بل الأمية التي تغذي الفقر، والفساد الذي أهدر الثروات، وتعليم هشّ وصحة وزراعة متدهورة، فيما يغذي بعض الجهلة خطاب الانقسام خدمةً لأعداء الوطن.
ومع ذلك، فإن بلادنا تزخر بثروات هائلة من معادن وبحار وزراعة وثروة حيوانية كان يمكن أن تجعلها في مصاف الدول المتقدمة، لولا سوء التسيير وغياب الرؤية. وبينما يبقى شباب الوطن يعيش واقعًا مرًّا داخل البلد، أو يحمل حقائبه خارجًا باحثًا عن فرصة، فإن معاناته وإصراره على إثبات الذات كان الأولى أن تُستثمر في وطنه. غير أن الفساد والمحسوبية سدّا الأبواب في وجهه، ودفعاه إلى الهجرة رغم قسوتها وإكراهاتها.
فلنتعظ بما جرى في أمم مزقتها الحروب الداخلية والصراعات العرقية، حيث لم ينجُ أحد من كأسها المرّ. إن الحرب لا رابح فيها، وكل من يشعل نارها يحترق بها.
يا شباب موريتانيا، اتقوا الله في وطنكم، فهو أمانة في أعناقكم. حافظوا على وحدته وسلمه الأهلي، ووجّهوا معارضتكم نحو المفسدين حقًا، لا نحو تغذية الأحقاد. المستقبل لا يُبنى بالشعارات ولا بالهروب، بل بالعلم والعمل والإصلاح، وبمحاربة الطبقية والقبلية والعرق.
موريتانيا تنتظر منكم أن تكونوا سواعد البناء لا معاول الهدم، وحصن الوحدة لا وقود الفتنة.

*المصطفى كاري*

شاهد أيضاً

لعصابه .. حين تبدل الأرض غير الأرض/ النهاه أحمدو

  يقاس مدى عراقة الأمم و رسوخ حضاراتها ، بحجم ما يتوارثه أجيالها من تراث …