
في بلدٍ كموريتانيا، حيث تتقاطع الذاكرة مع الجرح، وتُلامس المطالب سقف الكرامة أكثر مما تلامس الأرض، يصبح الصمت أحيانًا تواطؤًا، ويصبح الكلام ضرورة أخلاقية.
خطاب السياسي المخضرم بيجل ولد هميد، الذي وجّهه مؤخرا للنائب بيرام الداه اعبيد، فتح من جديد جراحًا لم تندمل، لكنه فتح أيضًا نافذة على نقاش ضروري طالما هربنا منه أو تم ترحيله تحت عناوين “الوحدة الوطنية”، وهي وحدة هشة إن لم تتأسس على صدق الحقيقة وعدالة النظر.
لكن ما أثار الاستغراب، بل القلق، ليس فقط ما دار في الخطاب ذاته، وإنما تلك الأصوات التي تعالت من بعده، تحاول تطبيع الكذب، وتكريس اختلاق التاريخ، وفرض سردية واحدة على الجميع، كما لو أن الماضي فصلٌ في رواية يمكن تحريره أو تزييفه بما يخدم لحظة سياسية أو أجندة إيديولوجية.
فلنعد إلى الجذر بدل الدوران حول الفروع.
الحراطين مكون أصيل من مكونات المجتمع البيظاني، نشأ في حضنه، وشارك في لغته، وعاش في دائرته الثقافية والدينية والاجتماعية، لكنه في ذات الوقت عانى – ولا يزال – من مظالم بنيوية جعلت من انتمائه هذا عبئًا لا امتيازًا.
ظلمٌ لا يُنكره عاقل، ولا يمكن تجاهله في أي خطاب يريد إنصاف هذه الشريحة الكريمة.
لكن من الظلم أن يتحول هذا الظلم ذاته إلى ذريعة لإعادة إنتاج وهم “الهوية المستقلة” التي تُفكك ما بقي من روابط وطنية، وتنقل النقاش من دائرة الإنصاف إلى مستنقع التقسيم وافتعال الخصوصيات العرقية والثقافية، وكأن الوطن بات صفًّا من الشعوب المتجاورة، لا شعبًا واحدًا متعددًا، يتشارك الألم والأمل.
فالحراطين ليسوا شعبًا خارج التاريخ، ولا كيانًا غريبًا عن السياق، بل هم امتداد طبيعي لمجتمع البيظان الكبير، بتناقضاته، وصراعاته، ومظالمه، وأيضًا بإمكاناته الإصلاحية.
من يريد إنصافهم عليه أن يصارع من داخل هذا الإطار، لا أن يهدمه فوق رؤوس الجميع باسم التحرر.
ثم إن محاولة تصوير بيرام باعتباره “صوت الحراطين الأوحد” لا تختلف كثيرًا عن محاولة تصوير الظلم وكأنه قدر إلهي.
فالرجل له تاريخه، ومواقفه، ونضاله، لكن له كذلك سقَطات، وانزلاقات، وخطاب حاد لا يُمكن تبريره دائمًا، ولا يُمكن إنكاره.
نقده لا يعني التواطؤ مع الظالمين، كما أن الدفاع عنه لا يعني تأييد كل ما يصدر عنه.
أما ترديد مقولات مثل “منع الحراطين من التعبير عن ذاتهم” فهي في الحقيقة تحوير ذكي للواقع، لأن التعبير مكفول، بل أصبحت له منابر ومؤسسات وأحزاب.
إن ما يُرفض فقط هو اختطاف هذا التعبير لصالح طموحات شخصية أو مشاريع تقسيمية لا ترى في الوطن إلا جغرافيا متناحرة، ولا في المجتمع إلا مكونات متواجهة.
ختامًا:نحن في لحظة حاسمة:
إما أن نعيد النقاش إلى سكّته الطبيعية، حيث العدالة تصحيح لا تمزيق، والهوية شراكة لا وصاية ولا انفصال،
وإما أن نواصل الانحدار في هاوية الشعارات الجوفاء، التي تزرع الكراهية باسم الإنصاف، وتُجمّل الظلم باسم الوحدة، وتُشيطن النقد باسم الدفاع عن المظلومين.
فالإنصاف لا يُبنى على الكذب، ولا العدالة تُولد من فم الغضب وحده.