المهاجر/ الزاوية الأخرى!
الشيخ شاب أربعينني خريج جامعة نواكشوط، ينحدر من وسط اجتماعي مرموق!
مكانة الشيخ ومستواه العلمي وعادات مجتمعه، تمنعه من مزاولة الكثير من المهن والأعمال المتوفرة!
…
ظل مجتمع الشيخ إلى نهاية الألفية بسيطا ومحافظا، لم يكن مستوى الحضور في ذلك المجتمع يتطلب الكثير من المال، بقدرما يتطلب القدرة على المشاركة في المناظرات العلمية والثقافية السائدة أنذاك، الشيء الذي أهل أسرة الشيخ، المعروفة بذكائها الخارق، لتبوؤ الصدارة كابرا عن كابر!
لايزال الشيخ يذكر بشيء من الحنين ذلك الزمن الجميل!
رفاقه يتحلقون حول الخشب الملتهب يتبارون في العلوم المحظرية..
جلسة لامكان فيها لغير المتمكن من علوم القرآن واللغة والأدب…
يذكر بكل عنفوان كيف كان الجميع يسلم رأيه في عويصات الإعراب ودقائق الرسم القرآني من دون نقاش!
يتمنى لو عاد به الزمان إلى الوراء؛ كي يسترق السمع من جديد، لفتيات الحي وهن يترنمن، في حياء، بمقطوعات “التبراع” المعبرة، عن ولهن به!
يمد الشيخ صاندويشت البيج للفتاة، وقد هده الشوق وبلغ منه التعب!
_آه!.. نظام العمل بالساعة منصف بالفعل، لكنه مرهق جدا!
اثنتا عشرة ساعة من العمل المتواصل يوميا بالكاد يوفر، معها، ثلاثمائة دولار، مئتان منها تذهب لصالح الأم والأخت شهريا!
(_يكعمك انتي يامريك ماصعب السكن فيك!)
ثلاثة أعوام مضت على أول مرة يزور الوطن فيها!
كل هذه الفترة لم يستطع توفير مايلزم للوفاء بوعده، خاصة أن الكل رأى كيف كان يصرف في إجازته الأولى!
…
بعد عام واحد من مغادرته أخذ إجازة، وقضى أياما ممتعة مع أصدقائه في نزل ومطعم الحي..
كل سبل الراحة والاستجمام يوفرها مطعم موسى، الذي تحول في فترة وجيزة إلى مطعم كبير ونزل فخم يفد إليه السواح من كل بقاع الدنيا ومحطة توقف إجباري لجميع السيارات المارة من الطريق المعبد!
قبل انتهاء الإجازة خطب الشيخ ابنة عمه مريم ذات العشرين عاما..
…
مرت سنتان ونصف على الموعد الذي كان مقررا للزفاف!
نوع وحجم الهدايا التي وزع الشيخ على زواره أثناء إجازته، جعلته من الأثرياء في نظر الكل، وتأكد الأمر بعد أن أفشت خطيبته راتب الألفي دلار التي يكسب من عمله!
لا أحد في الحي يفهم ولا يتفهم طول فترة هذه الخطوبة..
بعض الشائعات تقول إن عملا سحريا كان وراء غيابه كل هذه الفترة عن الحي!
لكن رواية أخرى تؤكد أنه تزوج من ابنة اللبناني الشقراء التي ظهرت معه في إحدى الصور المتداولة على نطاق واسع!
قبل قليل اتصلت به أخته عيشة وحكت له كل شيء..!
الشيخ على علم بحساسية أخته من مريم، لكن عدم رد خطيبته على الرسائل منذ عدة أشهر..
والاقتضاب الطارئ في ردود والدتها على اتصالاته، أقنعته بصدق الأخت هذه المرة!
كرامه! أشلك ابذي الكهله!؟
هكذا ردت عيشة على التأثر الذي أبداه الشيخ، وهو يستمع منها لقرار ابنة عمه التخلي عنه!
تنفس الشيخ الصعداء بعد أن أجرى اتصالات وتأكد أنه تحلل من الالتزام الذي أرهقه التفكير بالوفاء به!
جزء مهم من العبء الثقيل، الذي ظل يئن تحت وطأته طيلة الفترة الماضية، حط عن كاهله اليوم.. ثلاث سنوات من التفكير في حجم المهمة التي تنتظره!
كان عليه توفير مبالغ ضخمة لتنظيم حفل الزفاف..
(السلام..الصداق..امروك السبوع..
العادة..الحوصة..)
عليه الآن الاستعداد وأخذ كل ما وفر طيلة السنوات الماضية، والعودة إلى الوطن لتحقيق حلم الوالدة!
_مناسبة عيشة لايمكن أن تتم من دونك!
منذ سنتين وحفل زفاف الأخت عيشة يتأجل، كل مرة، انتظارا لحضور الشيخ.
يحتاج الشيخ إلى اقتراض مبلغ إضافي كبير من رشيد لكي يتمكن من تنفيذ رغبات الوالدة.
(كراء القاعة، بنجه، ندوية لعليات، لفروح، اتصيفيت، الفسخة، المعروف،المودة..)
أوجه كثيرة للصرف تنتظر عودته!
…
يتذكر الشيخ بمرارة، كيف أدى به التفكير في هذه الأشياء وعزوفه عن كثير من الأعمال في وطنه، إلى أن يبيع القطيع الذي ورث عن والده رحمه الله ويعرض نفسه لكل الأخطار، ليؤول به المطاف نادل مطعم شعبي، في ضاحية فرجينيا!
في العام الأول كان اللبناني صاحب المطعم، يتكفل بالسكن والإعاشة؛ لذلك استطاع زيارة أهله.
لكن مع تزايد أعداد الوافدين وتوفر اليد العاملة بدأ رشيد اللبناني يتنصل من ذلك الالتزام، وتحت وطأة الحاجة والكم الهائل من الباحثين عن العمل، وقلة الفرص المتاحة، لم يجد الشيخ بدا من الاستمرار في عمله!
…
يتذكر، بشيء من الندم رفضه لعرض موسى الذي قدم له، بعيد انتهاء الأشغال في بناء الطريق المعبد المار من وسط القرية!
..
موسى بناء القرية الماهر، شيخ إفريقي في عقده الثامن، استجلبه الوالد رحمه الله، من إحدى الدول الإفريقية، قبل خمسة عقود لبناء المنزل الإسمنتي الأول في الحي، بعد أن قررت الجماعة وضع حد للترحال!
لايزال الشيخ يتذكر كيف كانوا وهم أطفال صغار يخافون من موسى!
في المساء لايمكن لغير المسنين من الرجال المرور بقرب الخباء الذي يبيت فيه!
النساء تحكي لأطفالهن حكايات مرعبة عن موسى لذلك تملكهم الخوف منه!
إحدى النساء صعقت عندما شهادته يتحول إلى ثعبان!
امرأة مسنة أوصت الجميع بإغلاق محكم للأواني في الليل، فالسحر الأسود تستجلبه الأواني المفتوحة من “امكيل”!
روايات أخرى تواترت على أن القط الذي يتنقل بين منازل الحي في العتمة، ليس شيئا آخر غير الإفريقي البناء، فقد شاهدته غير واحدة وهو يتحول إلى موسى داخل ذلك الخباء المخيف!
لايزال الشيخ حتى الآن تسري فيه قشعريرة كلما جمعه مجلس مع البناء موسى، رغم أنه متأكد من زيف كل ماحيك حوله من أساطير أيام قدومه!
الخوف المستوطن في وجدان الشاب من موسى، لم يكن السبب في رفض الشراكة معه في مشروع المطعم الذي ينوي تأسيسه على الطريق المعبد حديثا، إنما السبب الحقيقي هو الحملة الشعواء التي تعرض لها ابن عمه محمد بعيد فتحه محلا لتصليح العجلات!
الشيخ يفضل الموت فقيرا عن التعرض لعبارات التندر والتنمر التي سمع من نساء وشباب الحي اتجاه ابن عمه!
لايزال يتذكر مستوى الاشمئزاز الذي أظهرت كل من أخته وخطيبته عندما سمعتا بالخبر!
ولذلك يرفض فكرة العمل في المطعم من أساسها!
هكذا نرغم على الهجرة، حسب رأيي، فما رأيكم؟
حفظ الله بلادنا من كل مكروه وزادها رفعة وأمنا ونماء
الديماني محمد يحي