رحم الله حبيب ولد محفوظ

على إثرِ قراءتي لما يكتب في الصحافة العالمية عن القضية الفلسطينية تولّدت لدي قناعة راسخة بأن هناك منطق أخر ورؤى أخرى للعالم تختلف كلياً عن ما أعتقده.

ما يصدم القارئ أو المشاهد للصحافة الغربية الأوروبية والأمريكية -وخصوصا الفرنسية- هنا هو هذا التباين بين التعاطف الذي تعبر عنه عند مقتل الأطفال الفلسطينيين أمام “الكاميرات” وسحق جندين إسرائيليين من قبل الجماهير الغاضبة.

وقد تمت تغطية الانتفاضة على مراحل في الإعلام الغربي:

أولاً: تقديم صورة حزينة لطفل فلسطيني يقتل بالرصاص مباشرة امام كاميرا التلفزيون الفرنسي، أما التعليق فقد كان أقل تعبيراً عن الحزن، واستخدام عبارات من قبيل “لا يطاق” أو “محزن” أو “لا تكفي عبارات لوصف ما حدث”. وهو ما يسمح بعدم البحث عن العبارات و الإحجام عن الوصف المطول للمأساة. طبعا الصور تكفي لوحدها. حتى أنه في برنامج تلفزيوني تم تقديم الشكر لإسرائيل لسماحها بتصوير هذه المشاهد المأساوية دون أن يلفت الإنتباه أن هذه الصورة قد تخفي ما هو أسوأ.

أما الجرائد على شاكلة “نيويورك تاميز” و “ليبراسيون” فقد بحثت عن زراعة الشك في حقيقة هذه الصورة ووجدت ضالتها عندما نشرت صورة اسرائيلي ملطخاً بالدماء على أنه فلسطيني، ثم عادت لتصحيح الخبر في الغد، وكانت الفرصة سانحة للإسهاب في تلك الناحية.

وبعد أن رأى الإعلام أنه أعطى الفلسطينيين نصيبهم من “المشاعر” فقد آن الأوان أن يرجع إلى النهج الطبيعي وأن يعيد إلى اسرائيل حقوقها في التعاطف واحتكارها للألم.
وبدأ هذا النهج عندما اعتقل “حزب الله” ثلاثة جنود اسرائليين، هذا الاعتقال الذي يسميه الإعلام “اختطاف” (إن “اختطاف” جنود في أراضي العدو يجب أن يحمل اسما أخر)، هذا “الإختطاف” كان محزنا تماماً كقتل الأطفال.
مرحلة أخرى، هي تدنيس “ضريح يوسف” (حتى صحيفة عاريف تجعله بين قوسين) . في “نابلس” يرى الإعلام الغربي أنها “خطوة أخرى في تصاعد العنف” كما لو أن القتلى الفلسطينيين في اليوم نفسه تم تناسيهم – هل الموتى أهم من الأحياء؟
ولم يلفت أحد الإنتباه إلى أن “ضريح يوسف” هذا إنما هو مسجد قديم أحرقه الإسرائيليون 1983 وأعلنوا مكانه “ًضريح يوسف” وأنه مكان مقدس عند اليهودية وأن يوسف هذا ابن يعقوب وأمه “راحيل” توفيّ في مصر ولم تطأ قدماه أرض نابلس، وأن هذا الضريح ليس سوى حجة لأتباع “بازوخ غولدشتاين” مرتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي، والذي يعتبرونه “أكبر أبطال اسرائيل” حسب عبارات الكاهن الخبيث جيسنبرغ.

ولمساعدة الصحفيين في تعاطفهم -فقد ملوا اجترار قضية التقديس هذه التي لا يفهمونها كثيرا- جاء مقتل جنديين إسرائليين من قبل الجماهير الغاضبة أمام مفوضية شرطة في الأراضي الفلسطينية، وتناسى العالم عند ذلك مقتل مئات الأطفال الفلسطيينيين، وخرج الإعلام بعبارات من قبيل “الوضع أصبح خطراً” و “أكثر توتراً” و “الأمور تأخذ منعطفاً جديداً” طبعاً، أن مائة طفل عربي يقتلون كالكلاب ليس أمراً “مأساوياً” بل طبيعي أن يقتلوا فهم خلقوا لهذا، أما مقتل الإسرائيليين فذلك قمة العنف واللا إنسانية ويذكر العالم -أو هذا ما يقوله العالم- ذكرايات مرعبة كالهولوكوست النازية ألخ..

كذلك لم يلفت أحد الإنتباه إلى أن الفلسطينيين ذبحوا في “دير ياسين” قرية من 748 شخص ذبحوا عن بكرة أبيهم أطفالاً ونساءً من قبل جماعات مناحيم بيغين الذي منح جائزة نوبل للسلام فيما بعد، ولم يقم أي صحفي غربي بالتذكير بملايين المشرديين وبالـ 17000 قتيل في صبرا وشاتيلاً وحوادث التعذيب والتفجير اليومي للمنازل والـ “حرفدة” (كلمة عبرية) الميز العنصري الرسمي والمشروع في اسرائيل ضد العرب، والإهانات والمضايقات، لا أبداً لم يخطر ببال أحد منهم أن يقول أن الفلسطينيين شعب له تاريخ وحضارة و “لا توجد معاناة إلا معاناة الشعب اليهودي” كما يقول يهودي أخر متشدد وحاصل هو الأخر على جائز نوبل يدعى “إيلي فايز” مؤسس مذهب يسميه الوحدانية (مؤداه أنه لا يوجد إلا ظالم واحد هو التاريخ، ولا يوجد إلا مظلوم واحد هو الشعب اليهودي، ولا يوجد إلا ظلم واحد هو الهولوكست، ما قام به النازيون في حق الشعب اليهودي” وأن هذه المعاناة الوحيدة من نوعها تعطي حقوقها وحيدة من نوعها.
وتطبيقاً لهذه السياسية يحدث ما نشاهده اليوم: لا حق للفلسطينيين في التعاطف أو الرحمة والتضامن فهي حقوق لضحايا النازية ولأحفادهم فقط.

عندما تقوم القوات الإسرائيلية -لاحظوا كيف ينطقها الإعلام بنشوة- بإرسال مدرعاتها وقواتها وقذائفها لمجابهة الأطفال، فإن اللوم يوجه إلى الأطفال لأنهم يهددون بحجارتهم رابع قوة في العالم!! وعندما يقوم مستوطنون بإطلاق الرصاص على حشود فلسطينية فإنه يتم وصفهم بأنهم “أصوليون” ولا يوصفون أبداً بأنهم إرهابيون وقتلة، لأن ذلك تلك العبارات مخصصة للإسلاميين أو المسلمين بصفة عامة.
إن ما قرأته وأقرأه عن الانتفاضة لم أصدق أبداً أنه يمكن أن يكتب اليوم، فلم أرى أبداً هذه الدرجة من العنصرية، فالعنصرية في كل كلمة، والعنصرية في كل تعليق، والعنصرية في كل صورة، والعنصرية مع إظهار التعاطف أمام مقتل طفل.
إلا أن كل ما أقرأه لا يمثل شيئاً إلى جانب ما كتبه الفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي في المجلة الفرنسية “لوبوان” . طبعا كنت منزعجاً جداً بما فيه الكفاية عندما قرأت الإفتتاحية التي كتبها رئيس تحريرها “اكلود أمبرت” إلا أني كنت أعلم أن هذا الرجل كان مشغولاً بتناسق جمله والكلمات النادرة التي “يُملّح” بها مقاله أكثر من انشغاله بقضايا الشرق الأوسط، وسامحته عندما قال عن عرفات “رجل ضعيف تم إضعافه” وعن “أيهود باراك” “رجل قوي تم إضعافه” فلقد كان المهم هو الشكل وليس المضمون.

أما ما قاله “هنري ليفي” في عموده “الكناش” في نفس المجلة فهو ببساطة إعلان عنصري يبرر إعدام أطفال الإنتفاضة من قبل القوات الإسرائيلية، ويجرم كل من يحتج على ذلك لأنه يمثل العداء ضد اسرائيل والمؤامرة الأبدية للأشرار ضد أبناء اسرائيل.
وفي الواقع أنا أعرف هذا “الهنري ليفي” بحيث لا أنتظر منه أبداً موقفاً مشرفاً وإنما مواقف إعلامية في حدود الوقاحة وعدم اللباقة، رغم أني كنت دائماً أبحث له عن عذر كلما قدم علينا بتفعيلة جديدة، وكنت من بين المحسنين القلائل الذين تكرموا وشاهدوا فيلمه الرديئ مع ديلون، أما هذه المرة فلم أكن أبداً أتصور أنه يستطيع، فقد كتب في كناشه الذي يشوه كل الكنانيش مقالاً تحت عنوان “الهجوم على المعابد” وكأن المعابد اليهودية هي أهم ما تعرض للهجوم، كان مقالاً في قمة الخساسة منسوجا على خلفية فكرة المؤامرة العالمية على الشعب اليهودي، وكانت الرصاصة التي قتلت الصبي محمد الدرة، رصاصة طائشة حسب “هنري ليفي” إذ يقول “كان الحدث عالمياً تناقلته القنوات الإخبارية في العالم بأكلمه وفي القارات الخمس، وعلى جميع التلفزيونات الموجودة، وتم تضخيم أصداء زيارة شارون إلى باحة المسجد الأقصى، وتم تضخيم شأن الرصاصة الطائشة -لأننا يجب أن لا ننسى وحتى إشعار أخر- أن الصبي محمد درة قتلته رصاصة طائشة.
أي إشعار جديد يعنيه “ليفي” ومن سيتقدم بهذا الإشعار؟ والرصاصة ليست وحدها الطائشة فقد طاش قبلها الكثير من الرصاص والركلات وو..

– حبيب ولد محفوظ، موريتانيد، القلم، العدد 231 بتاريخ 16 مارس 2003. ترجمة: عبد الرحمن ولد عبد الله.

شاهد أيضاً

احمد ولد بسيف يعلن عن خطة عقارية جديدة

أعلن وزير العقارات وأملاك الدولة والإصلاح العقاري، أحمد ولد بوسيف، عن إطلاق خطة لمعالجة مشاكل …