العلامة الشيخ عبد الله بن بيه يكتب عن مكانة العقل و معناه وحدوده

جاء في مقال فكري للشيخ عبد الله بن بيه: رئيس منتدى ابوظبي للسلم، انه بات من المستحسن، في ظل الجدل الدائر حاليا حول “العقلانية بين طالب لها ومحذر منها وناقد لفقدانها عن المسلمين”، أن يتم التأمل في العقل ومكانته ومعناه وحدوده.

وجاء في المقال:

” في غمرة هذا الحديث والجدل حول العقلانية والعقل، بين طالب لها، ومحذر منها، وناقد لفقدانها عن المسلمين، ، يحسن ان نتأمل في العقل ومكانته ومعناه وحدوده.

العقل عند الغربيين Raison من الكلمة اللاتينية Ratio في تعريف مبسط هو: ملكة خاصة بالإنسان من خلالها يمكن أن يفكر.

وهو أداة رقابة الخاطر وسيرورة حركة الفكر إلى القرار والحركة والباعث على الحركة والفعل.وهو أيضا مجموعة المبادئ وطرق التفكير التي تتيح صواب الحكم على الأشياء والآراء.

إنه من الكلمات غير المحددة المعنى كالحق والخير والشر وليس كالسواد والتمر والبر.أما العقلانية التي يفسرها الغربيون: بأن الأشياء أصلها ترجع إلى أسباب معقولة.

ويختلفون بعد ذلك بين قائل باستقلال العقل عن التجربة سواء كانت مطلقة كما ذهب إليه الفيلسوف  رينيه ديكارت (René Descartes وهو في هذا افلاطوني ( أفلاطون ( Plato)) .

أو نقدية كما ذهب إليه الفيلسوف إيمانويل كانط (Immanuel Kant) وهو مذهب يقابل المذهب التجريبي للمدرسة الانجليزية في القرن الثامن عشر مع  الفيلسوف چون لوك  (John Locke ) وديفيد هيوم(David Hume).

وقد خاض المسلمون قبل الغربيين في هذا الخلاف منذ القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي دون أن يضعوا حداً فاصلاً بين العقل والعقلانية فقال الشافعي إنه: قوة تمييز بين الأشياء وأضدادها.

وكان منهم من قال: إن العقل غريزة تلزم العلوم البديهية. وقال الآمدي: إنه العلوم الضرورية التي لا خلو لنفس الإنسان منها بعد كمال الآلة وعدم أضدادها.

وهذا ما رأيناه عند ديكارت.أما الغزالي: فالعقل عنده غريزي وضروري وهما: نظري وتجريبي.

وترتب على هذا أن العقل هل هو متحد بالنسبة لجميع الناس لا يتفاوت بين شخص وآخر ولا بين شعب وآخر؟ هذا ما قال به الرازي وابن القشيري وغيرهما وهذا مذهب ديكارت من الغربيين الذي يقول: إن العقل هو أعدل الأشياء توزيعاً بين البشر.

أما من قال بأنه تجريبي فقال بتفاوته بين الأفراد.وقد جمع بعض العلماء بين ذلك باعترافهم بوجود ضربين مما يشار إليه بالعقل عقل غريزي وتجريبي بغض النظر عن الحقيقة والمجاز فالعقل يزيد بالتجارب وينقص.

هل للعقل حدود ؟

بعض الفلاسفة الغربيين يرون أنه لا حدود للعقل وتنازل البعض وقال: لا حدود للعقل إلا تلك الحدود التي يضعها العقل. ورأى بعضهم أن المتخيل يمثل حدود العقل. وقد قدم الفيلسوف إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant)  في «نقد العقل المجرد» امتداد وحدود هذا العقل.لكن بعضهم اعترف بأن العقل الإنساني محدود بنهاياته واضطراره بمحيطه الجسدي المادي والاجتماعي الذي يفرض عليه اضطرارات تشير إلى محدوديته.

لعل ذلك ما يعنيه الفيلسوف المغربي المعاصر طه عبد الرحمن عندما يحذر من العقل بواسطة العقل من اجل العقل. وبالنسبة لنا معشر المسلمين ومن يؤمن برسالة سماوية فإن العقل له سقف حيث تكون دائرة الوحي، وهو فضاء ميتافيزيقي فوق سقفه.ومع ذلك فإن العقل يتعامل مع هذه الدائرة في نطاق الاستحالة العقلية والجواز والوجوب العقليين. وهذا النطاق عندنا معشر المسلمين يجب فيه عدم التعارض فما أحاله العقل لا يجيزه الوحي وما يوجبه العقل يوجبه الوحي.

والجائز وهو حيز الإمكان قد يقرره الوحي وقد ينفيه حيث يكون الحكم في هذه المنطقة للوحي دون اعتراض من العقل الذي يتدخل في منطقة الاستحالة والوجوب ويسلم للوحي في حيز الإمكان.هذا في ما يتعلق بمجال العقائد حيث يعتبر العقل دليلاً منتجاً منشأ أما في مجال التشريع فينبغي أن نفرق بين فضائين فضاء المعاملات الذي يرجع إلى مصالح البشر حيث يسير العقل إلى جانب الوحي في تكامل وانسجام اختلف العلماء في وصفه فرأى بعض أن الشرع إذا ثبت يقدم على المصلحة التي يقتضيها العقل ورأى البعض الآخر أن الشرع قد فوض للعقل في اعتبار المصالح أساساً للتشريع مع اتفاق الطرفين على أن العقل يظل دليلاً مستكشفاً لا غنى عنه.

أما الفضاء الثاني وهو فضاء العبادات التعبدية التي ترتكز أساساً على الوحي فلا سلطان للعقل عليها. ومع ذلك فإنها كما يقول الفهري معقولة في الجملة وإن لم يعقل في التفاصيل كالصلاة ونحوها.

قيمة العقل لدى المسلمين  وبيان بالقول فقد نجح المسلمون إلى حد كبير في وقت من الأوقات في إيجاد تساكن وتعايش بين العقل والفلسفة والدين والحياة الروحية.

وبعيداً عن هذا الجدل الفلسفي الذي قد لا يأتي بنتائج أو قد يتكلم به من يخالفه تطبيقاً وسلوكاً، فما هو موقف الإسلام من العقل؟

لقد كانت مسألة العقل من أهم القضايا الفلسفية التي شغلت المسلمين منذ القرن الثاني الهجري الى الثامن الميلادي، واشترك في الجدل حولها الفلاسفة والمتكلمون والأطباء والفقهاء، كما يقول الزركشي، ويمكن أن نضيف اللغويين المهتمين بالاشتقاق اللغوي وبالمعاني والمترادفات.

وكل نظر إليه من زاوية الاستعمال الذي يخدم فيه.

وقد اختلفت الفرق في تعريفه إلى ألف قول كما يقول بعضهم.

يمجد الإسلام العقل مرتبطاً بالفضيلة والأخلاق ويعطيه أكثر من اسم كلها تشير إلى حقيقته الراشدة وعلاقته بالحكمة.

فهو العقل والحجر والنُّهي وسمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن ارتكاب القبائح والرذائل؛ أي يمنعه من ذلك.

وكذا سمي حجراً أيضا لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من ارتكاب الرذائل. ويفسر العقل أيضا بأنه نور روحاني به تدرك النفس الأمور أو العلوم الضرورية والنظرية.

ويفسر العقل أيضا بأنه القوة التي بها يكون التمييز بين الحسن والقبح.

وعقل الشيء : فهمه، قال تعالى «مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون» وقال تعالى «لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون» «أَفَلَا تَعْقِلُون» «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ » «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون» وأكثر معنى هذه الكلمة أي العقل في القرآن أن يكون الفهم والإدراك الصحيح أو ما في معناه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون» «قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ».

واستعمل اللب جمعاً وأراد به العقل «يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون»، وكذلك القلب «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» والفؤاد «وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون» والنهى «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى».

وفي المقولة المشهورة: أول ما خلق الله العقل وقال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم منك. بك آخذ وبك أعطي وبك أعاقب.

وإن لم يثبت هذا القول عنه عليه الصلاة والسلام فإنه يشير إلى مكانة العقل عند المسلمين.

– الإسلام يجعل العقل مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية.

بل المصدر الأول المنتج في العقائد والإيمان وأحد المصادر الأربعة المؤسسة في التشريع الإسلامي،

ـ والعقل أحد الضرورات الخمس التي يقوم التشريع الإسلامي عليها، إلى جانب الدين والنفس والنسل والمال؛ هذه هي الكليات التي تحكم منظومة التشريع في الإسلام.

والعقل مناط التكليف والأمانة التي حملها الباري جل وعلا للإنسان بعد أن عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها. وحرم الدين الإسلامي المسكرات وكلما يؤدي إلى تغييب العقل.

ولا يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإلا قدم العقل الصريح الصحيح وحمل النقل على التأويل أو عدم الثبوت.ودعا القرآن إلى إعمال العقل والفكر. عندما دعا إلى التدبر والتفكر في آيات الكون وآيات الوحي، وهي دعوة إلى اكتناه أسرار الخلق وحكم الأمر «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ»لافتاً الى انتباه الإنسان إلى البرهان القائم في نفسه على نفسه من نفسه «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون».

وفي الكون من حوله «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا» «مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ»،وأمر بالتفكر في خلقه والتدبر في وحيه وأمره قال «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» وقال تعالى «وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» وقال سبحانه وتعالى «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ» وقال جل وعلا «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ» وقال تعالى «لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ».

فالأمر بالتفكر والتدبر قد ورد بصيغة الخبر والاستفهام ليكون أبلغ في التقرير وأدعى إلى التفكير.وإنما كان التفكير والتدبر وسيلة لاستكناه حكمة الخلق والمصلحة التي تتضمنها أحكام الحق.

وانطلاقاً من هذا جاءت مقاصد الشريعة تمثل منظومة كاملة ترد الشريعة إلى أصول معقولة تصون مصالح الناس وتدرأ عنهم المفاسد، وذلك بعد أن استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غير الرازي.

حسب عبارة الشاطبي.وأما الاختلاف في التحسين والتقبيح العقليين والصلاح والأصلح بين الفرق الإسلامية، إلا دليل على مكانة العقل. وفي النهاية لا يوجد تعارض بين العقل والوحي.

شاهد أيضاً

كتابة بالجمر

كانت ليلة عادية ككل الليالي في الحي، كنت أجلس قرب أبي أرتب كتبي الجامعية، وأفكر …