رفت بلادنا، خلال السنتين الأخيرتين، تحولا جذريا غيرَ مسبوق في مجال حقوق الإنسان تمثل، من بين أمور أخرى، في رفع المظالم، وتصحيح الاختلالات، ووقف كل أنواع الانتهاكات، وتعزيز الترسانة القانونية ذات الصلة بالحقوق المدنية وحرية التعبير، وإلغاء المواد القانونية المعيقة لعمل الروابط والجمعيات، والانفتاح على الطيف الحقوقي بمختلف مشاربه وتوجهاته ومواقفه.
لقد أدت الإجراءات التي اتخذت فور تسلم فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم في البلاد، بعد انتخابات نزيهة وشفافة، إلى تطبيع العلاقة مع المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وأصبحت الشراكة والتشاور عنوانا للمرحلة، وتم التعامل مع الحقوقيين الوطنين كشركاء وليس كأعداء، وأعيد الاعتبار لعمل الأجهزة الحكومية المعنية بترقية حقوق الإنسان، وشهد تصنيف بلادنا عالميا تحسنا كبيرا إذ انتقلت إلى “الرتبة أ” في تصنيف مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان بجنيف، وانتقلت موريتانيا من البلد الذي يؤخذ عليه في مجال حقوق الإنسان إلى بلد يعطي الدروس ويحتذى به كمثال لأنه يتطور في المجال الحقوقي تعاطيا وتعاملا ونتائج، ولأنه استطاع وضع حد للاحتقان الحقوقي ومناوشة الحقوقيين ورميهم في الزنزانات.
لقد أتيحت الفرصة للهيئات الاستشارية والرقابية في بلادنا أن تضطلع بدورها كاملا، فباتت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان شريكا للدولة تقرر، متى شاءت، وبدون قيود، إجراء تحقيقاتها ومعايناتها واتصالاتها بالسجناء والمشتبه بهم، للتأكد من مدى احترام حقوقهم، دون أن تتوقف عن الرصد والتنبيه والوساطة وتقييم أوضاع حقوق الإنسان بشكل عام وتقديم المشورة للحكومة، إضافة إلى ما تنظم من قوافل للتحسيس والتعبئة حول الثقافة الحقوقية.
ومن جهتها، تواصل الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، التي تم تجديد مكتبها سنة 2020، العمل وفقا للبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، من أجل الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة خاصة في أماكن الحرمان من الحرية.
وبالإضافة إلى ما سبق، فثمة إنجازات مشهودة تحققت خلال العامين المنصرمين: ففي شهر أكتوبر من سنة 2019 تم انتخاب بلادنا عضوا في مجلس حقوق الإنسان بجنيف. وفي يوم 29 نوفمبر من نفس السنة، صدر المرسوم رقم 385/2019 المتضمن إنشاء إدارة مهام عمومية تدعى المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء (تآزر)، التي يتمثل دورها الأساسي في المساعدة في تحديد سياسات الحماية الاجتماعية، والتضامن والتكافل الوطني، ومكافحة الإقصاء والفقر لصالح السكان الفقراء والضعفاء، وتنسيق تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية للسكان المستهدفين. وفي سنة 2020، تمت بلورة الشروط المرجعية بهدف إعداد استراتيجية وطنية لترقية وحماية حقوق الإنسان، مصحوبة بخطة عمل وطنية، بالتعاون مع مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إضافة إلى المصادقة على خطة العمل الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر والشروع في تنفيذها.
وتفاعلا مع آليات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، تم تقديم جميع التقارير الوطنية المطلوبة إلى هيئات المعاهدات وإعداد التقرير الوطني للاستعراض الدوري الشامل وعرضه يوم 7 أكتوبر 2020 على مجلس الوزراء. وهو التقرير الذي تمت مشاركته على نطاق واسع مع جميع الأطراف المعنية (الجمعية الوطنية، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، منظمات المجتمع المدني، إلخ).
لقد تم أيضا في هذا المجال قبول طلبات الزيارة لاثنين من المقررين الخاصين للأمم المتحدة، وهما المقرر الخاص للفريق العامل المعني بالتمييز ضد النساء والفتيات، والمقرر الخاص المعني بأشكال الرق المعاصرة.
وفي مجال مراقبة الالتزامات الدولية، تم إقرار واعتماد مشروع قانون منع وقمع الاتجار بالأشخاص وحماية الضحايا. ويتجسد الغرض من هذا القانون في تزويد المهنيين في مكافحة الاتجار بالأشخاص بتشريعات تأخذ في الاعتبار جميع أبعاد هذه الظاهرة.
كما كانت بلادنا حاضرة بقوة في كثير من التظاهرات الحقوقية الدولية، فشاركت في أعمال الدورة الـ43 لمجلس حقوق الإنسان والدورة العادية السابعة والأربعين للجنة العربية لحقوق الإنسان، المنعقدتين على التوالي في 24 فبراير 2020 بجنيف و 11 فبراير 2020 بالقاهرة. وخلال هذه التظاهرات عرضت المفوضية الإنجازات التي حققتها موريتانيا في مجال تعزيز وحماية حقوق الإنسان.
ولعل من أهم المؤشرات الايجابية التي تم تسجيلها سنة 2020، إعادة تصنيف بلادنا في المستوى الثاني من الترتيب السنوي لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر، بعد أن ظلت في المستوى الأخير لما يناهز سبع سنوات.
وفي سنة 2021، تركزت النشاطات في التعريف بالحقوق وتعزيز القدرات والدفاع عن السياسة الوطنية في مجال حقوق الإنسان ومتابعة الوفاء بالتزامات موريتانيا الدولية وتنفيذها.
ويمكننا أن نذكر من ضمن إنجازات موريتانيا على هذا الصعيد:
* اعتماد التقرير الوطني للدورة الثالثة من الاستعراض الدوري الشامل (EPU)؛
* تنظيم حملات تحسيسية من طرف القطاع حول القانون 2015-031 المجرم للعبودية والممارسات الاستعبادية وحول قانون 017 -2020 بشأن منع ومحاربة الاتجار بالبشر؛
* تنظيم حملات تحسيسية بالشراكة مع منظمات حقوقية حول القانون 031-2015 المجرم للعبودية والممارسات الاستعبادية وحول قانون 017-2020 بشأن منع ومحاربة الاتجار بالبشر؛
* إعداد خطة عمل وطنية لتنفيذ التوصيات الواردة عن الدورة الثالثة للاستعراض الدوري الشامل؛
* تشجيع الدور الريادي للجمعيات والشخصيات المستقلة في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز اللحمة الوطنية، إذ تم استحداث الجائزة الوطنية لحقوق الإنسان واللحمة الاجتماعية؛ وهي تعبير من الحكومة عن العرفان بالجهود التي يبذلها الحقوقيون من أجل الحفاظ على النسيج الاجتماعي والرقي بالسجل الحقوقي للبلد؛
* تنظيم طاولة مستديرة مع مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والقطاعات والمؤسسات الوطنية المعنية، ورؤساء المحاكم الخاصة بمكافحة الرق، والمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان حول العراقيل المتعلقة بتطبيق القانون 2015-031 المجرم للعبودية والممارسات الاستعبادية، وهي الطاولة التي أسفرت عن تشكيل لجنة لمتابعة قضايا الرق وإعداد ونشر تعميم مشترك موقع من وزراء العدل والدفاع والداخلية بشأن الملاحقة القضائية لجرائم الاتجار بالبشر والعبودية والممارسات الاستعبادية موجه إلى المدعي العام لدى المحكمة العليا والمدعين العامين لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الجمهورية وضباط ووكلاء الشرطة القضائية من الأمن الوطني والدرك؛
* كما تم خلال السنة الجارية إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، واكتملت الاستراتيجية الوطنية لترقية وحماية حقوق الإنسان، ووضع برنامج وطني لتعزيز التماسك الاجتماعي، كما أنجزت دراسة لمواءمة النصوص الوطنية مع ترتيبات الاتفاقيات الدولية، إضافة إلى إعداد التقارير الوطنية الخاصة بهيئات المعاهدات والآليات الإقليمية، فضلا عن طباعة مجموعة جديدة من النصوص القانونية وجعلها في متناول مهنيي القانون ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين.
وفي مجال العمل الإنساني، قامت مفوضية حقوق الإنسان والعمل الإنساني والعلاقات مع المجتمع المدني بتمويل 119 مشروعا لتحسين ظروف حياة السكان وذلك في إطار برنامج الأقطاب التنموية المندمجة بعد تحديدها بالتعاون مع السلطات الإدارية والمصالح التقنية والسكان في 11 من ولايات الوطن؛ كما تم توزيع آلاف السلات الغذائية على الأسر المحتاجة في روصو وكيهيدي وسليبابي وباسكنو وتمبدغه، وتقديم مساعدة لنزلاء سجون نواكشوط ونواذيبو وروصو بالمواد الغذائية ومستلزمات النظافة ودعم المرضى والمحتاجين وضحايا الحرائق، ووضع اللمسات الأخيرة على الاستراتيجية الوطنية للعمل الإنساني.
وفي إطار إعمال الحقوق المدنية والسياسية، سيما منها ما يتعلق بتكريس حرية التجمع، تم وضع وإقرار الاستراتيجية الوطنية لترقية المجتمع المدني، وإعداد وإصدار المراسيم والمقررات التطبيقية للقانون المتعلق بالجمعيات والهيئات والشبكات، وإنشاء منصة رقمية لمتابعة منظمات المجتمع المدني، مع إطلاق مسار التحسيس بالقانون 2021/004 وآلياته التطبيقية، وإنشاء منتديات جهوية لمنظمات المجتمع المدني على مستوى جميع الولايات الداخلية.
وفي إطار تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واصلت الحكومة تنفيذ برنامج “أولوياتي الموسع”، الذي يحتوي على أكبر عدد من المشاريع المتزامنة في تاريخ البلد. ويهدف هذا البرنامج الممول من طرف الدولة إلى رفع القوة الشرائية للمواطنين وتحسين الولوج للخدمات الأساسية وخلق فرص العمل. وقد استفاد منه ما يقارب مليوني شخص، كما ساعد على خلق أكثر من 6000 وظيفة مؤقتة أو دائمة.
وفي نفس السياق، وسعيا إلى تحسين ظروف حياة المواطنين، خاصة الفئات الهشة، وكذلك من أجل النهوض بِقِطاعَيْ الصحة والتعليم، تم توسيع الرعاية والتأمين الصحيين، ليشملا مائة ألف أسرة متعففة، كما تم تدشين العديد من البنى التحتية المدرسية، وإطلاق برنامج الكفالات المدرسية. وهو ما يعكس، بشكل واضح، الأهمية التي توليها السلطات العليا لترقية التعليم والصحة وتقليص الفوارق الاجتماعية والغبن والتفاوت بين فئات المجتمع.
إنها قراءة سريعة في حصيلة الإنجازات الواقعية في مجال حقوق الانسان في بلادنا. تلك الإنجازات التي نرجو، بحول الله، أن تتعزز خلال السنة القادمة خاصة مع اعتماد الاستراتيجية الوطنية الجديدة لترقية وحماية حقوق الإنسان، والاستراتيجية الوطنية للعمل الإنساني، والاستراتيجية الوطنية لترقية المجتمع المدني. إنها ثمرة الجهود الحكومية الرامية إلى إحداث إصلاح جذري على مستوى حقوق الانسان، مبني على التشاور مع كل الأطراف، ومسايرة التطور الحاصل في الآليات والمنظومة القانونية الدولية، واستجابة لمتطلبات المرحلة، وإغلاقا لقوس من التجاوزات والانتهاكات التي هددت الانسجام الاجتماعي واللحمة الوطنية خلال العشرية الفارطة.