عاشت أوروبا قرونًا طويلة تحت هيمنة التأويل الديني في السياسة، وهو ما رسّخ عصورًا عُرفت في الذاكرة الإنسانية بـ عصور الظلام. لم تخرج القارة العجوز من تلك الحقبة إلا حين فصلت بين ما هو روحي وما هو سياسي، وحين أدركت أن استدعاء المقدّس لخدمة صراعات البشر لا ينتج إلا جمودًا وفوضى. التحرر الفكري الذي شهدته أوروبا لم يكن استغناءً عن الدين، بل استغناءً عن توظيفه.
واليوم، وبعد أن قطعت أوروبا أشواطًا نحو الدولة الحديثة، نقف نحن في موريتانيا أمام ظاهرة لا تقل خطورة عن استدعاء الدين… لكنها أكثر حدّة: استدعاء العنصرية.
العنصرية… الطيف الذي يُستدعى كلما ضاق الأفق السياسي
في كل حقبة سياسية هشّة داخل أي دولة، تظهر أصوات تحاول إنعاش الانقسامات القديمة. وفي موريتانيا، يبرز هذا السلوك لدى بعض التيارات والفواعل التي تختبئ وراء شعارات الديمقراطية بينما تمارس النقيض تمامًا: إحياء خطاب التفريق بدل تعزيز وحدة الدولة.
فبدل أن تكون الديمقراطية مساحة للمشاركة والتنافس الحر، تصبح عند البعض أداةً لإعادة إنتاج خطاب الهوية في أسوأ صوره.
والأغرب أنّ هؤلاء لا يستدعون العنصرية بوصفها موقفًا صريحًا، بل يقدمونها باعتبارها “ردّة فعل” على توترات سياسية سابقة، أو كأنها نتيجة “طبيعية” لممارسات قام بها انقلابيون أو مقربون منهم، وكأن المجتمع هو من يجب أن يدفع ثمن صراعات السلطة.
أزمة خطاب وليست أزمة مجتمع
المجتمع الموريتاني، بطبيعته وتاريخه، متعدد وقادر على التعايش. الأزمة الحقيقية تكمن في خطاب يتم استخدامه كلما احتاجت بعض القوى إلى حشد عاطفي يعوّض غياب مشروع سياسي واضح.
وحين يُستدعى خطاب كهذا، يصبح بوسعه تدمير كل ما تبنيه الدولة من مؤسسات وثقة ونمو… فالعنصرية ليست رأيًا سياسيًا، بل تقويضًا لأساس الدولة نفسها.
الديمقراطية ليست أداة للابتزاز الهوياتي
أن تستدعي العنصرية تحت مظلة الديمقراطية يعني أنك لا تؤمن بالديمقراطية أصلًا.
فالديمقراطية ليست صراع هويات، بل صراع برامج. وهي ليست وسيلة لإحياء الانقسامات، بل إطار لخلق حلول مشتركة. وكل من يحوّلها إلى منصة لاستحضار أحقاد الماضي، إنما يعيد إنتاج الدور نفسه الذي لعبه المتشددون في أوروبا القديمة حين استدعوا الدين لتبرير صراعاتهم.
بين ما فعلته أوروبا وما علينا أن نفعله
تخلّت أوروبا عن استدعاء الدين حين أدركت أنه لا يصلح أن يكون سلاحًا في معارك البشر.
ونحن في موريتانيا، آن لنا أن ندرك أن استدعاء العنصرية أخطر من استدعاء الدين ذاته، لأنه يشطر المجتمع إلى فئات متقابلة لا يجمعها جامع.
بناء الدولة لا يحدث باستدعاء الماضي، بل ببناء المستقبل. والمستقبل لا يبنيه خطاب يفرّق، بل مشروع يوحّد.
الهضاب إنفو موقع إخباري مستقل