تعد القبلية من أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي التي عرفها الإنسان فقد كانت القبيلة الإطار الأساس للانتماء والهوية والحماية في عصور ما قبل الدولة الحديثة غير أن استمرار هذا النمط من التفكير والانتماء في العصر الحديث يشكل عائقا كبيرا أمام بناء دولة المؤسسات والقانون.
فبينما تقوم الدولة الحديثة على المواطنة والمساواة وسيادة القانون ترتكز القبلية على العصبية والانتماء الضيق والولاء للدم والنسب ومن هنا تصبح القبلية نقيضا لمفهوم الدولة العصرية.
أولًا: مفهوم القبلية وجذورها التاريخية
فالقبلية نظام اجتماعي يقوم على الانتماء إلى جماعة محددة يجمعها أصل واحد وتحدد العلاقات داخلها وفقا للقرابة والولاء للعائلة أو العشيرة أو الشيخ. في المجتمعات القديمة كان لهذا النظام دور حيوي في حماية الأفراد وتنظيم الموارد وحل النزاعات خاصة في ظل غياب مؤسسات الدولة والقانون.
لكن مع تطور المجتمعات وظهور مفهوم الدولة بمؤسساتها القانونية والسياسية أصبح النظام القبلي عاجزا عن تلبية حاجات التنظيم الحديث الذي يتطلب مساواة وعدالة وحقوقا متساوية لجميع المواطنين.
ثانيًا: القبلية ونقيض الدولة الحديثة
الدولة الحديثة، كما عرفها علماء الاجتماع والسياسة مثل ماكس فيبر، تقوم على ثلاثة أركان أساسية: الأرض، الشعب، والسلطة السياسية القائمة على الشرعية القانونية. أما القبلية فتعتمد على العصبية أي الولاء للدم والنسب بدلا من القانون والمواطنة.
وحين تتغلب القبلية على روح المواطنة يتحول الانتماء إلى الدولة إلى انتماء شكلي وتغيب العدالة لصالح المحسوبية ويتفكك الولاء الوطني إلى ولاءات فرعية متناحرة وهذا ما يجعل القبلية من أبرز معوقات بناء الدول العصرية.
ثالثًا: مظاهر تأثير القبلية في المجتمعات الحديثة
1.ضعف مؤسسات الدولة: إذ تستبدل الكفاءة بالولاء القبلي ما يؤدي إلى الفساد الإداري وضعف الأداء العام.
2.تفكك النسيج الوطني: حيث يتراجع الشعور بالانتماء الوطني أمام الولاء للقبيلة أو العائلة.
3.غياب العدالة الاجتماعية: فالقضاء العرفي القبلي يحل محل القضاء الرسمي ويكرس مبدأ “القوي يأخذ حقه بيده”.
4.إعاقة التنمية: لأن القرارات تبنى على التوازنات القبلية لا على أسس علمية أو اقتصادية.
رابعًا: الدولة المدنية كبديل حضاري
في المقابل، تقوم الدولة المدنية الحديثة على مبدأ المواطنة الذي يجعل الأفراد متساوين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو الدين أو العرق. وهي دولة تعتمد المؤسسات بدل الأشخاص وتدار شؤونها وفق نظام ديمقراطي يتيح المشاركة والمساءلة والشفافية.
ولكي تتحول المجتمعات ذات الطابع القبلي إلى مجتمعات مدنية لا بد من:
تعزيز التعليم والتوعية الوطنية لترسيخ مفهوم المواطنة.
إصلاح القوانين بما يضمن المساواة والعدالة للجميع.
تمكين مؤسسات الدولة لتكون المرجعية الوحيدة في إدارة الشأن العام.
فصل المصالح العامة عن الولاءات الضيقة لضمان حياد الدولة وعدالتها.
خامسًا: القبلية كتراث اجتماعي لا كمنهج سياسي
لا يعني رفض القبلية رفض التاريخ أو التراث بل يعني تحويل القيم الإيجابية في النظام القبلي — مثل التكافل وصلة الرحم — إلى أدوات لبناء الدولة لا لهدمها فاحترام الأصل لا يعني تقديسه، والانتماء للقبيلة لا يجب أن يتقدّم على الانتماء للوطن.
وهذا لايلغي أن
القبلية كانت يوما ما ضرورة للحياة والبقاء لكنها اليوم أصبحت عقبة أمام التطور والعدالة وبناء الدولة الحديثة. فالدول لا تبنى على روابط الدم بل على الهوية الوطنية المشتركة ولا تنهض بالعصبية بل بالعقل والعلم والمؤسسات.
ومن أراد أن يبني وطنا مزدهرا، فعليه أن يتحرر من الولاءات الضيقة ليكون ولاؤه الأول والأخير للوطن والقانون.