اللغة ليست كائناً أسطورياً بريئاً، وليست كياناً محايداً، كل لغة هي وعاء يحتضن ذاكرة متقدة ويقظة وبقايا أخرى ميتة أو هي في طريق الانقراض، وكل لغة ولدت وتشكلت داخل سلسلة من القيم الثقافية الخاصة بها وحدها، وكل لغة لها سرديتها الخاصة بها.
ومن خلال تاريخها المميز، بالمقارنة مع غيرها من اللغات، تتموضع كل لغة على مسافات متفاوتة من القيم الإنسانية ومن الحرية أساساً، ومن هنا فاللغة ليست مجرد أداة تواصل بين المجموعات البشرية بل هي خزان سري لمعان خاصة بها، وحاملة لرؤية مميزة للعالم.
إن مستعملي اللغة، مهما كانت هذه اللغة، يتشكلون فكرياً ونفسياً بواسطتها ومن خلال الظاهر والباطن فيها، عن وعي أو عن غير وعي، فكل لغة تشبه اللاقط الفضائي (برابول)، قادرة على التقاط الخيرات الفكرية والإبداعية الإنسانية وفق طاقتها على الاستقبال وقدرة قابليتها للضيافة اللسانية.
اللغة هي فضاء رمزي مباح ومفتوح تهيمن عليه قوى سياسية ودينية من خلال مؤسسات أيديولوجية مختلفة ثقافية وتربوية ودينية، وتؤممه لمصلحة مجموعات اجتماعية محددة.
إن اللغات الكبيرة أو الكبرى هي تلك التي نجحت سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافياً، واللغات التي كانت تاريخياً مسرحاً للجدالات الفلسفية الكبرى، هي غالباً الأكثر رسوخاً وتأثيراً في تاريخ الأفكار الإنسانية، واللغات التي نمت بعيداً من هيمنة عنف وقمع الأيديولوجيا الدينية أو السياسية تكون بصورة عامة معافاة ثقافياً ومعجمياً.
لا أحد ينكر بأن كثيراً من اللغات، بل غالبيتها، جرت حمايتها وحفظها عبر التاريخ من خلال الأديان، فالدين سيف ذو حدين، وهذا مرتبط بممارسات المتدينين والمتحكمين في المؤسسة الدينية، فهم من جهة يعملون على حماية اللغة ويخافون عليها من التلوث الذي قد يلحق بالدين نفسه، لكن خوفهم ورؤيتهم الطهرانية كثيراً ما تتحول إلى حال من القمع الذي يقف ضد التجديد والحرية التي هي روح الإبداع، وكلما تحكم المتدينون المتطرفون في المؤسسات ذات العلاقة بالشأن الثقافي والتربوي، جرى تفريغ اللغة من طاقة الحياة ودفعها بعيداً من العقل، وتكون النتيجة ولادة سلسلة ثقافية وفكرية معطوبة وبعيدة من نار الإبداع وسؤال العقل وروح الاجتهاد.
كل لغة، مهما اتصلت أو تفاعلت مع غيرها من اللغات، تحمل قوة تأثير خاصة بها على القارئ والمستعمل لها بصورة عامة، قوة كامنة في ذاتها ولذاتها.
يخوض المبدعون اليقظون الحريصون على حياة لغتهم معركة متواصلة من خلال نصوصهم الجميلة والعاقلة بغية تحريرها من هيمنة وعنف المؤسسات الأيديولوجية المتطرفة السياسية والدينية والتربوية، فهم في ذلك يقومون، ومن خلال الكتابة، بدور الجنود في معركة تحرير ذاكرة اللغة من الأيديولوجيا العقيمة، بشحنها بطاقة جديدة تكتسب من الواقع اليومي الحي ومن العبقرية الشعبية ومن القراءة لخيرات الإبداع العالمي.
اللغة التي يحفر مثقفوها من الكتاب والمفكرين بحرية في القضايا المجتمعية المقلقة تظل لغة حية ومتقدة ومتجددة، فاللغات الحية هي تلك التي تعيش في حال تحول دائم كما يتحول المجتمع، فلا وجود للغة مكتملة أو منتهية، وكل لغة يعتقد أهلها بأنها مكتملة وصافية ومقدسة فهم يقومون بدفنها من دون علم منهم، فاللغة تصبح مقدسة حين تدنس بأوحال المجتمع.
اللغة الحية لا تعيش في المقابر، مقابر الكتب، بل اللغة الحية هي تلك التي تترجم التاريخ الحي لليومي، والمبدع الأدبي أو الفلسفي مهما ادعى استقلاليته فهو لا يفلت من هذه القاعدة، إذ يولد بين مخالب القوة الخفية التي تمارسها السلسلة الثقافية التي تحيط باللغة وتغذيها، والكتابة تكون في حال المعافاة والتنوع كلما كان المبدعون يعيشون في ظل مجتمع لا يخلط فيه الأفراد والمؤسسات بين الديني والدنيوي، وحال القارئ كحال المبدع، فهو رهين السلسلة الثقافية للغة المهيمنة، فهي من تجعل منه قارئاً إيجابياً أو كيساً يُحشى بأيديولوجيا جاهزة.
وغالباً ما توسم الإنتاجات الأدبية والفنية بعنف الأيديولوجيا التي تهيمن على عمل المؤسسات وتوجهها، وفي مثل هذا الوضع يصبح القارئ ضحية لهذه الثقافة الدعائية، وفي مجتمع كهذا يخوض الكتاب المستنيرون صراعاً شرساً ضد هذه البلاهة الأيديولوجية، دفاعاً عن حقهم في حرية الخيال وعن حق المواطن في متعة القراءة.
إن مهمة الكاتب المستنير هو الاجتهاد الجمالي والعمل الفكري الشاق والمتواصل من أجل تحرير ذاكرة اللغة التي تعاني ثقل الأيديولوجيا العنيفة القمعية، وشحنها بمجموعة من الأفكار والقيم الإنسانية، ومثل هذا العمل يشكل طريقاً ثقافياً وسياسياً طويلاً يبدأ بتحرير الكتابة ليصل إلى تحرير القارئ.
إن القارئ هو ثمرة لغته التي تعيش في سلسلة ثقافية معينة، وهو الصورة السياسية والاجتماعية للغة التي يقرأ بها ويفكر بها، فصحيح أن كل لغة قادرة على احتضان النور أو حمله، لكن هذه المهمة تظل شاقة بالنسبة إلى اللغات التي اختطفت من قبل مؤسسات ثقافية وسياسية ودينية تهيمن عليها الأيديولوجيا التقليدية والقمعية.
وتتحرر اللغة أيضاً بفضل دور الترجمة الجادة، فالترجمة عبارة عن رياضة فكرية تسهم في تطوير اللغة المستقبِلة وتمنحها نفساً معجمياً جديداً، وتعتبر النصوص الكبيرة المترجمة عاملاً منقذاً لخيال الكاتب والقارئ على حد سواء، لكن في بلد تكون فيه اللغة ضحية لمؤسسات ديماغوجية دينية أو سياسية أو تربوية أو بوليسية، فإن الرقابة لا تسمح للترجمة أن تفتح الطريق للنصوص التي تربك النظام القائم.
إن اللغة من حيث هي نظام تفكير، ومن حيث هي كائن أسطوري يومي ينمو داخل سلسلة ثقافية معينة تعد العامل الأول في تشكيل ذهنية القارئ وتبويب مخياله، ولأن كل لغة، بما هي عليه من خصوصيات إبستيمولوجية وتاريخية ودينية وسياسية، تصنع قارئاً مختلفاً عن غيره في اللغات الأخرى؟
إذاً قل لي بأية لغة تقرأ؟ أقل لك من أنت.