تُعد إشكالية الشر القضية المحورية التي استأثرت بجهود المفكرين عبر التاريخ. كل صرح فكري أو عقدي شيده البشر يجد جذوره متشابكة مع هذه المسألة الجوهرية، سواء بطريقة جلية أم خفية.
لكن لماذا احتلت قضية الشر هذه المكانة المتميزة في المسيرة الإنسانية؟ الإنسان كائن فريد لا يقبع في حدود ما تمليه عليه طبيعته التكوينية ضمن سلسلة الوجود، ولا يرضى بما تفرضه قدراته الحيوية المحدودة.
تخيل لو أن ذلك العنكبوت الذي أزهقت روحه في مسكنك كان يتوهم طيلة عمره أنك شريك له في المأوى…
لم تشهد الحضارة الإنسانية قضية استحوذت على اهتمام الناس مثلما فعلت مسألة الشر.
أجل، لقد ظلت ولا تزال موضع جدل محتدم، وتحتل القلب من المناقشات الفلسفية والغيبية والدينية. يخيل إليك وأنت تتابع هذه الحوارات والمناظرات عبر الأزمان أن مشكلة الشر هي القضية الأم، وأن كل بناء فكري وعقدي أقامه الإنسان يدور في فلكها ويخضع لنفوذها المباشر أو المستتر.
التساؤل الذي يفرض نفسه: لماذا نالت قضية الشر كل هذه الأهمية في الحياة البشرية؟ صحيح أن لا أحد يجادل في أن تساؤل الشر ليس طارئاً على الوجود الإنساني، بل هو ملتصق بكينونته ولا ينفصل عنه، كما أن مصير الإنسان والإنسانية معلق به.
إذاً، سؤال الشر من نوع التساؤلات التي لا تنحصر في بُعد وجودي واحد ولا تنتظم في مجال معرفي واحد، بل هو تساؤل يرتبط بالأبعاد المتنوعة للوجود الإنساني وينتظم في مجالات معرفية متعددة. لا عجب أن تتوزع مقاربته بين دوائر متنوعة نذكر منها مثلاً: الدائرة العقدية، الدائرة الغيبية، الدائرة الفلسفية، أو الدائرة العلمية.
سؤال الشر هذا يتأرجح إذاً بين عالمي الشهادة والغيب، فليس من اليسير تناول هذه الإشكالية أو مقاربتها دون استحضار تداخل هذه الدوائر وتشابك هذه الأبعاد.
كم هو مثير للعجب والاستغراب ذلك التبسيط في تناول هذا التساؤل رغم طبيعته المعقدة والمركبة كما تلاحظون، وكم هو مثير لاستغراب الإنسانية أن التبسيط والجرأة يطغيان على كثير من المحاولات في شتى المجالات.
لا ريب أن الإقرار بملازمة الشر للإنسان يتضمن جملة من الحقائق سيكون من المفيد إثارتها تعميقاً للفهم وتوسيعاً للرؤية نظراً لثقلها وأهميتها.
تتعلق هذه الحقيقة الأولى بالإنسان ككائن غريب الأطوار مقارنة بالموجودات الأخرى. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقتصر على ما يتيحه وضعه التكويني في سلسلة المخلوقات ولا يكتفي بما هو عليه من خلال ما تتيحه إمكانياته الحيوية.
من المثير أنه وهو ينتمي إلى النظام الحيوي لا يتوقف عن التمرد على مقتضيات ذلك النظام. فهو مثلاً يخضع كغيره من الكائنات الحية للقوانين الحيوية كقانون الغرائز مثل الأكل والشرب والتناسل وغيرها، إلا أن خضوع الإنسان لها ليس مطلقاً كما هو حال بقية الكائنات، وإنما هو نسبي.
فهو يتحكم في طريقة الاستجابة لتلك القوانين ولا يؤديها كما تؤديها الكائنات الأخرى، وإنما يسعى الإنسان دائماً إلى انتزاعها من سياقها الحيواني وإضفاء طابع لا ينتمي إلى نظام الأحياء كما لا يقتضيه منطق الغريزة.
بمعنى آخر، إن الإنسان لا يستجيب للقوانين الحيوية إلا إذا ألبسها ثوباً يغير من شكلها ومن طريقة الاستجابة. تلك هي وظيفة الأبعاد الجمالية والأخلاقية عند الإنسان والتي تشتغل كغلاف أو لنقل كعدسة يُعاد من خلالها إخراج القوانين الحيوية.
فإذا كان الأكل أو الشرب أو التناسل شكلاً من أشكال الاستجابة من الناحية المبدئية لتلك القوانين تقتضيها الضرورة الحيوية، فإنها عند الإنسان لا تحيل على الغريزة ولا يخطر على بال أحد أنه يأكل أو يشرب أو يتناسل استجابة لقانون غريزي بدونه لا تستمر الحياة، وإنما في عُرف الإنسان أو في ذهنه يأكل ويشرب ويتناسل من أجل المتعة.
يكفي أن ننظر إلى ما طوره الإنسان من فنون وعادات وطقوس يلبس بها هذه المظاهر ويغلفها بها لدرجة محو الغريزة وطمس القوانين الحيوية. لقد تحولت إذاً طرائق الاستجابة للقوانين الحيوية من وسيلة كما هو شأن الكائنات الأخرى – من وسيلة لضمان استمرار الحياة – إلى غاية في حد ذاتها عند الإنسان.
فالغريزة تحولت إلى عالم الثقافة. فالإنسان ينتمي حيوياً إلى النظام ولكن ثقافياً هو خارج عن النظام، فهو لا يعتبر نفسه جزءاً من النظام بل ينظر إلى أن النظام هو الذي يُعتبر جزءاً منه، أي ملكاً له، وبالتالي فهو – الإنسان – مركز هذا النظام، يتخذ من كينونته مقياساً لكل هذا النظام ويخضع وجوده – أي وجود النظام – لمعاييره ويحاكمه وفق منطقه.
إننا نتحدث هنا عن تصور فلسفي هيمن وما يزال على الفكر الغربي على الأقل منذ أرسطو، وهو ما يُعرف بمركزية الإنسان أو المركزية البشرية (الأنثروبوسنتريزم)، وهو منظور فلسفي يضع الإنسان في مركز العالم وحاكماً على جميع الاعتبارات الأخلاقية والمعرفية والغيبية.
وهو يفترض أن قيمة الكائنات الأخرى والطبيعة تُحدد بناءً على فائدتها بالنسبة للإنسان أو على طبيعة علاقتها بالإنسان، التي هي هذه العلاقة عمودية من الإنسان إلى الكون بكل موجوداته وفي اتجاه واحد من المسيطر الذي هو الإنسان إلى المسيطر عليه – الكون وما فيه – وهو اتجاه الهيمنة والاستعباد.
لنتذكر في هذا الصدد دعوة ديكارت إلى أن يصبح الإنسان سيداً للطبيعة ومالكاً لها.
هذا عن الحقيقة الأولى. فضمن هذا الأفق إذاً يتبين أن منظور الإنسان إلى الشر لن يكون سوى منظوراً مركزياً، ذلك أن تعيين تجليات الشر هو أنثروبولوجي بالأساس، أي مرتبط بالإنسان.
أي أن حكم الإنسان على ظواهر معينة سواء كانت اجتماعية أو كونية على أنها شر، ومن ثم العمل على تعميمها وتثبيتها كأنها حقيقة كونية وموضوعية، ليس فقط أنها مركزية خاصة بالإنسان وإنما هي مصادرة حق الموجودات الأخرى في تقديرها لهذه الظواهر والحكم عليها.
لنتأمل بإمعان هذه الجملة التي أطلقها دوستويفسكي وهو يعرض هذه الإشكالية التي أرقته كغيره من المفكرين والفلاسفة، وذلك من خلال تخيل وجهة نظر العنكبوت أمام موقف الإنسان منه، بمعنى أنه سيُعطي اللسان للعنكبوت ليدلي بدلوه فيما يحكم به الإنسان، فيقول:
“ماذا لو كان العنكبوت الذي قتلته في غرفتك يظن طوال حياته أنك رفيقه في السكن؟”
دعوة للتفكر والتأمل في حقيقة الإنسان ومركزيته…