عندما تفقد الأمم عقلها الجماعي، تصبح عواطفها المتأججة هي القائدة، وتتسارع خطواتها نحو حافة الهاوية. وهذا لا يحدث لأنها تختار الانتحار، بل لأنها تفتقر إلى البوصلة. العقل ليس ترفًا للنخبة، بل هو شريان الحياة، وغيابه لا يؤدي فقط إلى الجهل، بل يشرعن الفوضى ويمنحها غطاءً أخلاقياً زائفاً.
في بعض البلدان إفريقيا و العربية التي تفتقر إلى الرؤية العقلانية، تصبح الخطابات الفارغة بديلاً عن السياسات الفعالة، وتصبح الولاءات الضيقة أكثر أهمية من الكفاءة. يُنظر إلى المفكرين بشك، بينما يُحتفى بالجهلاء تحت شعارات الشعبية والأصالة. لا مستقبل لأمة لا تستطيع التمييز بين الانفعال والعقل، بين الحماسة والحكمة، بين الصراخ والتخطيط.
عندما تتعرض الدول للانهيار وتواجه الأزمات، يكون أول ما يُستهدف هو حرية التفكير. يُحاصر المفكرون، ويُتهم الباحثون بالخيانة، وتُكسر أقلام النقاد. يتحول النقاش العام إلى ساحة للمزايدات، بينما يصبح الفضاء الإعلامي مسرحًا للسخرية والانفعالات الفارغة. تُصنع الكراهية في الأماكن التي يُفترض أن تُنتج الأمل، وتُستخدم التكنولوجيا ليس لبناء المعرفة، بل لنشر الجهل وتعزيز التفاهة.
إن الوطن الذي يفتقر إلى العقل هو وطن يقتل الموهبة في مهدها، يخشى الأسئلة، ويضيق صدره بالنقد. إنه وطن يقدّس الماضي دون أن يفهمه، ويهاجم المستقبل لأنه لا يجرؤ على تخيله. وطن يدور في حلقة مفرغة من الأزمات، حيث تنشأ كل أزمة من رحم الجهل وتُغذى بعناد.
إن العقل ليس ضد العاطفة، بل هو دليله. فحب الوطن لا يعني تأييد الفساد أو الدفاع عن الظلم تحت شعار الاستقرار. العقل هو الذي يميز بين الحماسة الوطنية وتهليل القطيع. عندما يختار الناس الغريزة على حساب البصيرة، يغرق الوطن في صراعات قبلية وطائفية وجهوية، لا تنتهي إلا بتمزيق النسيج الاجتماعي.
إذا لم يُبنى المشروع الوطني على أسس عقلانية نقدية، فإن أي مشروع تنموي أو سياسي سيكون مصيره الفشل. فما قيمة بناء المدن إذا كان العقل مهدومًا؟ وما جدوى الحديث عن التقدم إذا كان الإنسان لا يزال محاصرًا بالخرافة والتعصب والانغلاق؟
الغرق لا يحدث بشكل مفاجئ، بل هو نتيجة سلسلة من الإهمال المتعمد، وتجاهل التحذيرات، والاستخفاف بالخبراء والتشكيك في أصحاب الآراء. يتعرض الوطن للغرق عندما يتحول التعليم إلى مجرد تلقين، والإعلام إلى سطحية، والدين إلى وسيلة للتحريض. يحدث الغرق عندما يُستبعد الحكماء، وتُكافأ التصرفات الطائشة، وتُكمم أفواه الأحرار.
لذا، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع: النخبة التي استسلمت، والسلطة التي استبدت، والشعوب التي خضعت. ولا يمكن تحقيق الخلاص إلا من خلال تجديد العلاقة مع العقل، وإعادة الاعتبار للمعرفة، وصياغة مشروع وطني يقوم على الفكر بدلاً من الخوف، وعلى السياسات بدلاً من الشعارات.
على الرغم من كل الظلام، يبقى الأمل ممكنًا. فالتاريخ يثبت أن الأمم تنهض عندما تدرك أن العقل هو أغلى ثروة. عندما يُعاد الاعتبار للتعليم، ويُحرر الفكر من القيود، وتُفتح الأبواب للنقد والمساءلة، يبدأ التغيير. لن نتمكن من الانتقال من الهامش إلى الفعل ما لم نؤمن بأن أوطاننا لا تُبنى بالعواطف وحدها، بل بالعقول التي تفكر، وتبتكر، وتجرؤ على الحلم.فلنجعل شعارنا: لا مكان للجهل، ولا تسامح مع التخلف، ولا وطن يُبنى على الأوهام.
زكريا_نمر