المثقف الغلافي: عندما تُقرأ الكتب لألوانها”!

في زاوية من المقهى، كان هناك “مثقف” يتحدث بشغف عن الدولة والسياسة والمجتمع، مُلوحًا بكلمات ثقيلة اعتقد أنها ستمنحه هالة من الفكر والوعي. بدا كأنه يسعى لإثبات شيء ما، ليس لنفسه، بل لمن حوله. عندما سألته عن مصدر حديثه، وعن الكاتب الذي استند إليه، تردد قليلاً قبل أن يجيب بثقة مشوبة بالريبة: “نسيت اسم الكاتب، لكن الكتاب كان لونه أحمر… وغلافه يحتوي على صورة شخص يصرخ!”

هكذا ببساطة، صار الغلاف هو العنوان العريض للثقافة، وصار لون الكتاب أهم من فكرته، وصورة الغلاف أبلغ من اسم مؤلفه.إنه مشهد سريالي بامتياز، لكنه واقعي حد الألم. مشهد يكشف عن جرح غائر في جسد الحياة الثقافية الحديثة: انفصال ظاهرها عن باطنها، واختزال المعرفة في مظهر شكلي هش، يتغذى على الانطباع بدلًا من الفهم، وعلى المظهر بدلًا من العمق.

هذا “المثقف” ليس حالة فردية نادرة، بل هو تجسيد صارخ لظاهرة أخذت بالاتساع التثاقف الاستعراضي. نوع من الاستهلاك الثقافي المفرغ من أي مضمون.صار شراء الكتب طقسًا اجتماعيًا. والتقاط الصور معها في المقاهي أو على الأرصفة فعلًا يُحسب ضمن “رصيد الوعي”، بينما تظل صفحاتها بيضاء في ذاكرة صاحبها، لا تُقلب، لا تُفهم، ولا تُسائل.

نعيش اليوم في زمن يُقرأ فيه العنوان فقط، ثم تُبنى عليه الآراء الحادة، والمواقف المتطرفة. زمن لا يُطرح فيه السؤال بصدق، بل يُصاغ كعبارة جاهزة مأخوذة من تغريدة أو جملة مُقتطعة من كتاب لم يُقرأ أصلًا.وكم هو محزن أن يتحول الكاتب إلى هامش، والغلاف إلى عنوان! أن يصير النقاش الثقافي ساحة لإثبات الذات، لا بحثًا عن الحقيقة، ولا حوارًا حقيقيًا مع الفكر.

المثقف الحقيقي، لا ينسى اسم الكاتب لأنه يراه صديقًا، شريكًا في رحلة الوعي. يقرأه أكثر من مرة، لا ليُباهي بقراءته، بل لأنه يُضيء له زوايا معتمة في داخله. هو لا يبحث عن الغلاف، بل يبحث عن السؤال، عن الجرح، عن تلك الجملة التي تُوقظه، تُزعزعه، وتدفعه لإعادة التفكير بكل ما كان يظنه يقينًا.

في المقابل، هناك أولئك الذين يتعاملون مع الفكر كموضة، يتشدقون بمفاهيم لا يفهمونها، يقتبسون من فوكو وهم لم يقرأوا له إلا ثلاث كلمات، ويستشهدون بتشي جيفارا فقط لأنه أيقونة شعبوية عابرة على القمصان.

هذه ليست ثقافة، بل أداء. ليست معرفة، بل تمثيل. إنها مسرحية كبرى اسمها الوعي الزائف، حيث يلعب “أشباه المثقفين” دور البطولة، ويصفق لهم جمهور يخلط بين الصخب والحكمة، وبين الحفظ والفهم.

المثقف الذي ينسى اسم الكاتب ويتذكر فقط لون الغلاف، ليس إلا نتاجًا لهذا العصر الذي يُقدس السطح ويهمل العمق.عصر اختلطت فيه الأقنعة بالوجوه، وأصبح كل من امتلك قاموسًا صغيرًا وعبارات رنانة يُنصب نفسه مرشدًا فكريًا أو ناقدًا ثقافيًا.

ولذلك، لا بد من مساءلة هذا النمط من الوعي. لا بد من أن نُعيد تعريف الثقافة، لا بوصفها وسيلة للتفوق الاجتماعي، بل كأداة للتحرر، ووسيلة للبحث والتغيير.
علينا أن نعود إلى الكتب، لا لنحفظ أغلفتها، بل لنسكن داخل أسئلتها، ونحاور كتّابها، ونجعل من القراءة فعلًا مقاومًا ضد التفاهة، لا جزءًا منها.فلنضع الغلاف جانبًا، ولنفتح الصفحات.

زكريا_نمر

شاهد أيضاً

الطريق الى الهاوية (زكرياء نمر)

في كل مرة يعاد فيها إنتاج خطاب عنصري أو قبلي، سواء عبر نكتة رائجة، أو …