من المسلمات التي هي محل اتفاق الجميع أنه لا تنمية مع الفساد، ولا إصلاح مع الفساد، ولا تغيير نحو الأفضل مع الفساد، وأنه لن يكتب النجاح لأي خطة إصلاح، ومهما كانت جودتها، إذا لم تسبقها ـ أو تصاحبها على الأقل ـ حرب جدية تخوضها الحكومة ضد الفساد، وانتفاضة شعبية واسعة يطلقها المجتمع ضد الفساد. أنبه هنا إلى أن التفريق بين الحرب والانتفاضة في مواجهة الفساد هو تفريق مقصود، وهو من أجل التمييز بين دور الحكومة ودور المجتمع في مواجهة الفساد، وهو كذلك من أجل تبيان أهمية التكامل بين الدورين، فبدون التكامل بينهما، فسيبقى الفساد يتسع ويتمدد، وهو ما سيمكنه في نهاية المطاف من وأد أي خطة إصلاح عند ميلادها، بل وحتى من قبل من ميلادها.
إن الفساد يعدُّ خصما شرسا لأي خطة إصلاح أو أي مسعى تنموي، وهو عندما يتفشى في بلد ما بشكل واسع، فإنه في هذه الحالة يصبح لا يختلف عن المستعمر أو المحتل، ولذا فالخلاص منه يحتاج إلى حرب تحرير واسعة يشارك فيها الجميع، وحرب التحرير هذه هي حربٌ مصيرية، فإما أن ننتصر على الفساد حكومة وشعبا، فننعم بثمار ذلك النصر، وإما أن نستسلم له، ونرفع الراية البيضاء، وحينها سيصبح مستقبل البلاد مفتوحا على كل السيناريوهات والاحتمالات الأكثر سوءا.
إن الانتصار على الفساد لن يتحقق بدون حرب تحرير واسعة تخاض ضده، وتتمثل حرب التحرير هذه في : حرب جدية تطلقها الحكومة، وانتفاضة شعبية واسعة تطلقها القوى الحية في المجتمع. ومن هنا وجب التوقف قليلا مع الحرب على الفساد والانتفاضة ضد الفساد.
أولا / الحرب على الفساد
إن الحكومة هي وحدها القادرة على خوض حرب على الفساد، ذلك أن الحرب على الفساد كأي حرب أخرى تحتاج إلى أسلحة، والأسلحة لا تملكها إلا الحكومات، وهي وحدها القادرة على استخدام تلك الأسلحة، وهذه هي أهم ثلاثة أسلحة يُمكن للحكومات أن تحارب بها الفساد:
السلاح الأول / الإرادة السياسية: أي أن تكون هناك إرادة سياسية قوية وصارمة لدى رئيس الجمهورية وحكومته لمحاربة الفساد؛
السلاح الثاني / الأجهزة الرقابية والقضائية: أي أن تكون هناك أجهزة رقابية تعمل بشكل فعال (الرقابة البرلمانية؛ محكمة الحسابات؛ المفتشية العامة للدولة؛ المفتشية العامة للمالية ..إلخ)، هذا فضلا عن وجود جهاز قضائي فعال؛
السلاح الثالث / مبدأ المكافأة والعقوبة: لابد من الأخذ بهذا المبدأ في أي حرب على الفساد، وذلك حتى ينال الموظف المفسد ما يستحق من عقوبات إدارية وقضائية، وينال الموظف النزيه ما يستحق من ترقية وتكريم.
ثانيا / الانتفاضة الشعبية ضد الفساد
على المستوى الشعبي في مواجهة الفساد، فإنه يمكننا أن نتحدث عن مقاومة شعبية أو انتفاضة شعبية، والانتفاضة الشعبية ضد الفساد كأي انتفاضة أخرى لا تحتاج إلى أسلحة محددة، فكل شيء يمكن أن يستخدم كسلاح في هذه الانتفاضة، فحتى نظرة الازدراء وإظهار عدم التقدير لكل مفسد معلوم الفساد يمكن استخدامها كسلاح قوي في الانتفاضة الشعبية ضد الفساد، فهذا السلاح البسيط لا أحد يستخدمه رغم أن استخدامه متاح للجميع، بل على العكس من ذلك فنظرة الازدراء والاحتقار لم يعد مجتمعنا ينظر بها إلا للموظف النزيه والمستقيم، والذي تمنعه استقامته من أن يجمع أموالا طائلة من سرقة المال العام، وإنفاق فتاتها كرشوة للمجتمع لينال بالتالي نظرات التقدير والإعجاب من مجتمع جشع أصبح يشكل حاضنة قوية للفساد، وأصبح لا يقدر ولا يحترم إلا المفسد الوقح الذي يسرق المال العام في وضح النهار، والذي تصل به وقاحته إلى أن يتباهى بمسروقاته نهارا جهارا من خلال تشييد العمارات واقتناء السيارات الفاخرات، مع العلم أنه لو جمع كل راتبه لثلاثة عقود كاملة لما تمكن من تشييد منزل واحد في إحدى المقاطعات الراقية في ولاية نواكشوط الغربية.
إن من أهم الأسلحة التي يمكن أن نستخدمها في أي انتفاضة شعبية ضد الفساد هي أن نصحح هذا الانقلاب القائم في قيمنا المجتمعية، وعندما نصحح ذلك الانقلاب القيمي، ونعيد بالتالي المجتمع إلى فطرته السليمة، فإننا بذلك نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في حربنا المصيرية ضد الفساد والمفسدين.
إن الانتفاضة الشعبية ضد الفساد، وكما قلنا سابقا ليست لها أسلحة محددة، وكل شيء يمكن أن يستخدم فيها كسلاح، وعموما فهناك مجالات للتحرك الشعبي ضد الفساد يجب أن يركز عليها أي حراك شعبي يخطط ـ وبشكل جاد ـ لأن ينتفض ضد الفساد، ولعل من أهم تلك المجالات:
المجال الأول / التوعية : لقد أصبحنا نعيش في مجتمع متصالح مع الفساد بل وحاضن له، أي أننا نعيش في مجتمع لا يرحب بأي مواجهة حقيقية وجدية مع الفساد، هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، ولذا فإن أهم دور يمكن أن يلعبه أي حراك شعبي ضد الفساد هو العمل على تغيير نظرة المجتمع للفساد والمفسدين، ويحتاج ذلك إلى جهد توعوي واسع وطويل النفس يشارك فيه كل من يستطيع أن يؤثر في الرأي العام من علماء وساسة ونشطاء جمعويين وصحافة ومدونين…إلخ
والهدف من هذا الجهد التوعوي هو جعل المجتمع يغير نظرته إلى الرشوة وسرقة المال العام وكل أشكال الفساد، يغيرها من نظرة تشجع تلك الأفعال إلى نظرة تزدري تلك الأفعال وتذمها وتحتقر كل من يقوم بها. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكثير من أفراد المجتمع قد يقفون عمليا ضد أي جهد توعوي ضد الفساد، وذلك على الرغم من أنهم هم المستفيد الأول من مواجهة الفساد، فالتغيير ـ أي تغيير ـ قد يجد في البداية مقاومة قوية من المستفيد منه، ومن هنا تبرز أهمية التوعية أكثر؛
المجال الثاني / خلق ذراع شعبي حيوي ونشط يقدم الدعم والمؤازرة الشعبية والإعلامية للحكومة عند فتحها لأي ملف فساد. فمن المعروف أنه عند فتح أي ملف فساد فإن الذي يجد الدعم الإعلامي والشعبي هو المفسد الذي تقف معه قبيلته، وكثير من أولئك الذين وصلهم بعض الفتات من أمواله الطائلة التي سرق، وتبقى الجهة الحكومية التي تقف وراء فتح ذلك الملف وحيدة دون أي دعم، بل كثيرا ما تصبح هي المتهم الأول بممارسة جريمة “تصفية الحسابات” ضد هذا المفسد أو ذاك، أو بممارسة “التمييز السلبي” في فتح هذا الملف دون ذاك.
ولعل من أهم الحجج التي يحاول البعض أن يشوش بها على أي ملف فساد يتم فتحه، هي انشغاله عند فتح أي ملف فساد بتعداد مظاهر الفساد في البلد، والقول بأنه لا أهمية لفتح ذلك الملف من قبل فتح كل ملفات الفساد الأخرى. إن من يُطالب بفتح ملفات الفساد دفعة واحدة إنما يُطالب بالمستحيل، وهو في حقيقة أمره لا يريد حربا على الفساد، فاشتراط فتح كل ملفات الفساد دفعة واحدة، في بلد تفشى فيه الفساد هو شرط تعجيزي، ومن يطرح شرطا كذلك، إنما يناصر الفساد والمفسدين، علم بذلك أو لم يعلم.
المجال الثالث / تبيان مظاهر الخلل أو النقص في العمل الحكومي، وكشف ما يمكن كشفه من ملفات فساد، مع العمل على تقديم ما يمكن تقديمه من مقترحات قد تساهم في الحد من الفساد.
المجال الرابع/ العمل على تنفيذ توصيات الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة، والتي تمت المصادقة عليها في العام 2010، ويتم تحيينها الآن، ومن دون أن يتم تفعيل أي توصية من توصياتها الهامة.
إن العمل على تنفيذ توصيات هذه الإستراتيجية يعدُّ من أهم الأنشطة التي يمكن لأي حراك شعبي ضد الفساد أن يقوم بها، ويتأكد الأمر بالنسبة لتلك التوصيات التي تقع مسؤولية تنفيذها على المجتمع المدني.
بهذا نكون قد وضعنا تصورا أوليا لملامح الحملة الشعبية الكبرى لمحاربة الفساد، والتي نأمل أن تنطلق في هذه البلاد للحد من الفساد، وستكون هناك مقالات أخرى إن شاء الله تقدم تفاصيل أكثر عن ملامح هذه الحملة الشعبية التي نحتاجها كثيرا للحد من الفساد في بلادنا.
حفظ الله موريتانيا…
محمد الأمين الفاضل