
يقاس مدى عراقة الأمم و رسوخ حضاراتها ، بحجم ما يتوارثه أجيالها من تراث مادي و معنوي عبر تاريخها ، كما أن درجة تعاطي هذه الأجيال مع تراثها ، حفظا و صيانة و نشرا ، يعكس مدى نضجها و ثقافتها و حتى احترامها لنفسها .
و يبقى التراث بشتى أصنافه خير رابط بين الحاضر و الماضي ، الأمر الذي لابد منه لاستشراف المستقبل الواعد .
و نظرا لهذه الأهمية البالغة للتراث ، لم يغب في قطاعات جميع الأنظمة المتعاقبة على بلادنا ، قطاع يهتم به ، متكامل البنية بإداراته و طواقمه ، و سياساته و ميزانياته ، وجميع وسائله الضرورية للقيام بمهامه .
لكن كثيرا ما تنحصر هذه المهام ، في جمع قطع مَحَارٍ، و شظايا فَخارٍ ، و “امْدَكَّه “و ” مهراز ” و ” كُونْتِيَّه ” و ” امْصَرْ ” و ” امنات اوزار” ، وحفظ هذه التحف في دار الثقافة ، هذا في الوقت الذي يتم فيه التغاضى ، عن ممارسات تضر التراث في عمقه و صميمه ، أكثر مما تنفعه هذه التحف و مهرجانات المدن التاريخية و غير ها من النشاطات .
إن ظاهرة طمس المعالم و الأماكن العريقة في الوطن ، و حتى مسخها و محاولة تغييبها و محوها من ذاكرة المجتمع ، جريمة ضد التاريخ و التراث ، هذا الطمس و المسخ و التغييب و المحو ، الذي لم تسلم منه أي جهة من الوطن ، يتم بتبديل أسماء هذه الأماكن عمدا ولأغراض شتى .
فلو حل محمود مسومه أيامنا هذه ، بدياره و ربوعه بضواحى كيفه ، لكان بكاؤه على الديار ، أكثر من ساكنيها حين يقول :
ما فِيهمْ حدْ أتْلَ يـَنْشافْ
هــاذِ لمَّاضَعْ من لخْـــــيـــامْ
قَيْفَه و اكْوَيْكِيطْ أُلقُرافْ
و الطارفْ و اعوينتْ لحمامْ
فمن يمكنه أن يهتدي إلى “عرش الطلح ” غرب كيفه ، رغم أن المسافة لا تزيد على 10 كلم ؟ إذا اخبرته أن الطريق يمر ب : (الفردوس ، القدس ، الطواز ، بدر ، دبي و طيبه) . وكيف يهتدي الخارج منها شرقا إلى احسي البكاي ؟ إذا كان عليه أن يمر ب: (بدر ، و ليس بدامْقَتْ ول مَرْبَه)
ولا تتهمني بالكذب ، إذا قلت لك أنني شهدت عملية مسخ ” العَجْلاتْ” إلى “ذِيباتْ” ، في كامل وعيي ، و خارج أفلام مصاصي الدماء .
و كيف لا يصاب بالدُوار ، زائر ضريح وليِنا و صالحنا الشيخ ولد سيدي ، إذا تفاجأ ب”الرشيد” شامخا أمامه ، و “لحويطات” إلى جنبه ، و “فصك” ليس ببعيد ؟
و هل نقل هذه الأماكن بعيدا عن ربوعها ، إلى “اذراع أم النور” ، هو منتهى و فائنا و تقديرنا لسيد حكمائنا و فحل شعرائنا ول آدب ؟
و هل من المحافظة على التراث ، نقل أكبر مَعْلَمَةٍ ، وأقدم مدينة بها تسمى جميع الوطن ، فكيف تعرف “شنقيط” إذا وجدتها جنوب شرقي مدينة “كيفه” بين “اشْطيبْ” و “قِيقِيهْ” و “القربانيات” ؟
و كيف تهتدى في واد “المَلْكَه” ، بين “اعْدَيْلَتْ ول أحمد الحمد” ، و “أعْدَيْلَتْ لَفْكَارِينْ” و “تفرغ زينه” ، إذا وجدتها تبدلت ب :(القدس و الرياض و بغداد و المبروك و المدينة المنورة) ؟
و أخيرا كيف لا يحتاج بناهي ولد سيدي ، إلي دليل في لمسيله ، إذا وجد أن مقاطع مهمة منها – و إن كان لم يذكرها في طلعته – من قبيل : (سَيْلْ و اسْوَيلْ يُورْ و سَانِي و الوَذَّانْ .) يتحتم عليه البحث عنها بين : (باب السلام و نجد و البصرة و دار النعيم)؟
و كأنني ببكار ولد إسويد أحمد تائها بمنطقة “رأس الفيل” ، متمثلا بقول الشاعر :
العارفْ ما لي بيهْ لـَعـَـدْ **
يَغَـيـْرْ الـْبـَلُّ عـارَفْ
ظـَلَّيْتْ انْسَوَّلْ مَـجَـتْهـَـدْ *
قَوْمْ امْعاهمْ مَتْعارفْ
عنْ بلْ الْعارفْ كيفْ حدْ *
ما يعْـرفْ بَلْ الْْعارفْ
و ذلك بعد أن وجد نفسه ، يقف بين (أم القرى و الشفاء و البلد الطيب و الصفاء)
و على الأمير إذا أهتدى ، أن يأخذ بيد صاحبه القائل :
لدى جنب ” رأس الفيل” من” قِبْلَ سَاحِلِى” *
فتاة لقاها عندنا غير “زَاحِلِ”
وإن كان جل القوم في الغيد “واحِــــلاً *
فلست في غيد سواها “بِواحِلِ”
النهاه ولد أحمدو/ لوكالة كيفه للأنباء