من القصر الى المنفى

في قلب الدوحة، حيث تعجّ الحياة بالحركة والأضواء، كان هناك قصر يلفّه الصمت. لا يقترب منه أحد، تحرسه عيون يقظة، وجنود من الجيش القطري لا يعرفون عن ساكنه سوى ما تقتضيه الأوامر. داخل أسواره، كان يعيش رجل اعتاد على الحكم، على إصدار الأوامر، على سماع الهتافات والولاءات. لكنه الآن مجرد طيف من ماضٍ لم يعد له وجود.

كان معاوية ولد سيد أحمد الطائع، الرئيس الذي حكم موريتانيا لقرابة العشرين عامًا، قد انتهى به المطاف في المنفى بعد أن أطاحت به دبابات رفاقه ذات فجر بعيد. لم يكن منفاه عادياً، بل كان عزلة مغلقة، عزلة محروسة، عزلة أقرب إلى نفي لا تفتح أبوابه إلا لمن أُذن له بالدخول. أما زوجته، التي كانت سيدة القصر في نواكشوط، فقد اختفت بدورها عن الأوساط الاجتماعية، لا تُرى إلا في الأسواق، تمرّ مثل ظلّ عابر، لا لقاءات، لا زيارات، وكأنها تحيا داخل قوقعة فرضها القدر.

زيارة في العزلة

في أحد أيام عام 2009، حطّت طائرة في مطار الدوحة، نزلت منها امرأة ليست غريبة عن القصر، بل عرفت بريقه أيام السلطة، وعرفت ساكنه حين كان يملأ القاعات بخطاباته، ويحيط نفسه برجال النفوذ. كانت مكط فال، زوجة الوزير السابق با سولي، وصديقة مقرّبة من زوجة الطائع الراحلة. جاءت إلى قطر في زيارة لم تكن الأولى، فقد سبق لها أن التقت به في غامبيا أيام الانقلاب، لكنها هذه المرة جاءت محمّلة بهدايا اختارتها بعناية لرجل عاش سنواته الأخيرة في عزلة.

حضرت معها عشرين دراعة، وعشرين سروالًا، وعشرين قارورة من عطر المسك الفاخر. لم تكن تلك مجرد هدايا عادية، بل اختارتها بعناية، وكأنها أرادت أن تعيد إليه بعضًا من تفاصيل حياته الماضية، شيئًا من الأناقة التي اعتاد عليها، ومن العطور التي عرفها في سنوات حكمه.

عندما وصلت إلى القصر، أوقفتها الحراسة المشددة. تركت اسمها عند الحراس، وانتظرت. لم يكن الدخول إلى حيث يسكن الطائع أمرًا سهلًا، فكل شيء يجب أن يمر عبر الموافقات والاتصالات، كل لقاء يخضع لمعايير لا يحددها هو، بل مضيفوه الجدد. قبل أن تصل إلى الفندق، رنّ هاتفها. جاءها الصوت من الطرف الآخر: “سوف نرسل لك سيارة.” لم يكن ذلك طلبًا، بل أمرًا هادئًا مغلّفًا باللباقة.

حين وصلت السيارة، كانت تحملها نحو لقاء لم تعرف كيف سيكون. هل ستراه كما عهدته؟ هل سيظل ذلك الرجل القوي الذي حفظت صورته في مخيلتها، أم أن الغربة والسنوات قد صنعتا منه رجلًا آخر؟

اللقاء الأخير

عندما دخلت، وجدته في حال لم تكن تتوقعها. لم يكن ذلك الرئيس الذي عرفته قبل سنوات. الزمن ترك أثره عليه، لكن ما لفت انتباهها أكثر كان شعره المصبوغ بالأسود، وكأنه يحاول الاحتفاظ بمظهر رجل لا يشيخ، رجل لا يريد للزمن أن يأخذ منه أكثر مما أخذ.

في ذلك اللقاء، لم يسألها عن السياسة، لم يستفسر عن البلاد، لم يبدُ مهتمًا بما يجري خلف البحار. سألها فقط عن أهلها، عن أولادها، عن محيطها الضيق، عن تفاصيل صغيرة بدت كأنها كل ما تبقى له من فضول العالم.

تعشّيا معًا، كأنها وليمة وداع مؤجّلة. لم يكن هناك حديث عن المنفى، لم يكن هناك حنين ظاهر للوطن، فقط لحظة قصيرة من الدفء وسط عزلة طويلة.

قبل أن تغادر، سألها سؤالًا واحدًا بقي في ذهنها طويلًا: “لماذا أتيتِ الآن؟”

لم يكن السؤال مجرد استفسار عابر، بل كان استغرابًا لرؤية شخص من الماضي وسط جدران العزلة، بعد أن باتت الزيارات شيئًا نادرًا. أخبرته أنها جاءت فقط لتسلم عليه، كما فعلت سابقًا حين زرته في غامبيا أيام الانقلاب.

عزلة وذكريات متكررة

في ذلك القصر البعيد، كان الطائع رجلًا غائبًا عن العالم. لا يظهر، لا يتحدث، لا يُستقبل زوارًا إلا بإذن خاص. كانت حياته تمرّ بين جدران مغلقة، حيث الزمن يسير ببطء، والذكريات تتحول إلى شريط طويل يُعاد مرارًا بلا نهاية.

ومع ذلك، لم يكن منفصلًا تمامًا عن كل شيء. فقد بقي على تواصل مع أفراد عائلته، رغم البعد والمسافات.

كل يوم سبت، في تمام الساعة الخامسة مساءً بتوقيت الدوحة، كان يجري اتصالين هاتفيين لا يتخلف عنهما أبدًا:
• الأول بابنته زينب التي تعيش في نواكشوط،
• والثاني بابنه أحمد المقيم في إسبانيا.

كانت هذه المكالمات بمثابة النافذة الوحيدة التي يطل منها على عالمه القديم. في كل مرة، يسأل عن تفاصيل يومهم، عن أحوالهم، عن أي شيء قد يمنحه إحساسًا بأنه ما زال هناك، ولو عبر الصوت فقط.

ما بعد اللقاء

غادرت مكط فال الفندق بعد أربعة أيام قضتها في الدوحة، تحمل معها ذكريات لقاء لن يتكرر. لم تكن تعرف إن كانت سترى الطائع مرة أخرى، لكن ما كان واضحًا أن الزمن ترك أثره عليه، تمامًا كما ترك أثره على الجميع.

أما هو، فقد عاد إلى صمته، إلى حياته المحروسة بجدران لا يملك مفاتيحها، حيث كل شيء محسوب، وكل خطوة مراقبة. لم يكن ذلك القائد الذي عرفته نواكشوط، لم يكن ذلك الرجل الذي وقّع القرارات وغيّر مصير البلاد.

لقد أصبح مجرد اسم من الماضي، يعيش في حاضر لا صوت فيه سوى رنين الهاتف، كل سبت عند الخامسة مسة.

نقلا عن صفحة صالون انواكشوط

شاهد أيضاً

تعيينات جديدة باسنيم

أعلنت الشركة الوطنية للصناعة والمناجم “سنيم”، عن تعيينات جديدة واستحداث إدارة لديوان المدير العام للشركة. …